بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على رسوله الأمين
أما بعد
فالله سبحانه من تمام قدرته وعظيمها أن خلق الاضداد فأخرج النار من الشجر الأخضر وخلق الخير والشر وهذا هو الثابت في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: أن تؤمن بالله ..وبالقدر خيره وشره.
وهكذا ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم وكفروا القدرية الأولى الذين أنكروا خلق الله للشر بدعوى التنزيه
والشر في مفعولاته سبحانه لا في فعله تعالى فهو الحكيم الخبير الذي أحاط بكل شيء علما وعلم عواقب الامور
فلا ينسب الشر اليه تعالى كما في الحديث (والشر ليس اليك) وينسب الى مفعولاته ففي الحديث (وقني شر ما قضيت) فخلق الشرور والاضرار والبلايا والشياطين وقبح بعض الصور وتشويه بعض المخلوقات بالعاهات ليس شرا ولا قبيحا منه سبحانه وتقدس لأن هذه الأمور خلقت للحصول على نتائج مهمة وكثيرة جدا فالملائكة لا درجات رقي لهم وذلك لعدم تسلط الشياطين عليهم لذا يكون مقامهم ثابتا لا يتبدل وكذا الحيوانات ليس لها مقامات ترتقي لها حيث لم تسلط عليها الشياطين بينما في عالم الانسان تمتد المسافة بين مراتب الرقي ودركات التدني إلى أبعاد مديدة وطويلة جدا إذ بدأ من الجبابرة النماردة والفراعنة وانتهاء إلى الصديقين والأولياء والأنبياء عليهم السلام لذا بسر التكليف وبخلق الشياطين والأضداد والتفاوت بين العباد وارسال الرسل انفتح ميدان الامتحان والجهاد والمسابقة و ذلك لكمال القدرة والقهر والحكمة التي لا نعلمها كلها وقد ظهر لنا شئ منها
روى الامام أحمد في الزهد أن موسى قال يارب هلا سويت بين عبادك قال إني أحببت أن أشكر. وكذلك روي عن آدم عليهم السلام
وأنقل فتوى بعض أهل العلم :
وقول الله تعالى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ {السجدة:7}.
بين العلماء أن معناها هو ما ذكرناه من كون المخلوقات كلها حسنة بإضافتها إلى فعل الرب تعالى، فخلقه لها حسن؛ لأنه جار على مقتضى الحكمة، وإن كان بعضها غير حسن في نفسه،
قال الشوكاني: وَالْمَعْنَى أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ فِي خَلْقِهِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُ أَتْقَنَ وَأَحْكَمَ خَلْقَ مَخْلُوقَاتِهِ، فَبَعْضُ الْمَخْلُوقَاتِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَسَنَةً فِي نَفْسِهَا، فَهِيَ مُتْقَنَةٌ مَحْكَمَةٌ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مَعْنَاهَا مَعْنَى: أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ. انتهى.
وقد أخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير عن ابن عباس في تفسير هذه الآية أنه قال: أما رَأَيْت القردة لَيست بحسنة، وَلكنه أحكم خلقهَا.
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: أحسن كل شَيْء خلقه ـ قَالَ: أحسن بِخلق كل شَيْء -الْقَبِيح، وَالْحسن، والحيات، والعقارب، وكل شَيْء مِمَّا خلق- وَغَيره لَا يحسن شَيْئًا من ذَلِك.
والحاصل أن الخلق بإضافته إلى الله حسن، ففعل الله تعالى حسن بلا شك.
وأما المخلوق: فقد يكون حسنًا، وقد يكون قبيحًا، وإنما خلقه الله على هذا الوجه لما له في ذلك من الحكمة البالغة، ومن ثم؛ كثر في النصوص وصف أشخاص بدمامة الخلقة، ونحو ذلك، كما في وصف زاهر في حديث أنس، وفيه: وكان رجلًا دميمًا.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
: فَالْمَخْلُوقُ بِاعْتِبَارِ الْحِكْمَةِ الَّتِي خُلِقَ لِأَجْلِهَا خَيْرٌ وَحِكْمَةٌ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ شَرٌّ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، فَذَلِكَ أَمْرٌ عَارِضٌ جُزْئِيٌّ، لَيْسَ شَرًّا مَحْضًا، بَلْ الشَّرُّ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْخَيْرُ الْأَرْجَحُ هُوَ خَيْرٌ مِنْ الْفَاعِلِ الْحَكِيمِ، وَإِنْ كَانَ شَرًّا لِمَنْ قَامَ بِهِ.
وَظَنُّ الظَّانِّ أَنَّ الْحِكْمَةَ الْمَطْلُوبَةَ التَّامَّةَ قَدْ تَحْصُلُ مَعَ عَدَمِهِ ، إنَّمَا يَقُولُهُ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ ، وَارْتِبَاطِ بَعْضِهَا بِبَعْضِ، فَإِنَّ الْخَالِقَ إذَا خَلَقَ الشَّيْءَ ، فَلَا بُدَّ مِنْ خَلْقِ لَوَازِمِهِ، فَإِنَّ وُجُودَ الْمَلْزُومِ بِدُونِ وُجُودِ اللَّازِمِ مُمْتَنِعٌ
" انتهى من "مجموع الفتاوى"(8/ 512) .
وقال أيضا
" وَاللَّهُ تَعَالَى ، وَإِنْ كَانَ خَالِقًا لِكُلِّ شَيْءٍ ، فَإِنَّهُ خَلَقَ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ الَّتِي بِاعْتِبَارِهَا كَانَ فِعْلُهُ حَسَنًا مُتْقَنًا، كَمَا قَالَ: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ) وَقَالَ: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) ؛ فَلِهَذَا لَا يُضَافُ إِلَيْهِ الشَّرُّ مُفْرَدًا، بَلْ إِمَّا أَنْ يَدْخُلَ فِي الْعُمُومِ، وَإِمَّا أَنْ يُضَافَ إِلَى السَّبَبِ، وَإِمَّا أَنْ يُحْذَفَ فَاعِلُهُ " .
انتهى من "منهاج السنة النبوية" (3/ 142) .
قال ابن القيم عليه الرحمة:
ولهذا كان شكر الملائكة وخضوعهم وذلهم لعظمته وجلاله بعد أن شاهدوا من إبليس ما جرى له ومن هاروت وماروت ما شاهدوه أعلى وأكمل مما كان قبله، وهذه حكمة الرب، ولهذا كان شكر الأنبياء وأتباعهم بعد أن عاينوا هلاك أعدائهم وانتقام الرب منهم وما أنزل بهم من بأسه أعلى وأكمل، وكذلك شكر أهل الجنة في الجنة وهم يشاهدون أعداءه المكذبين لرسله المشركين به في ذلك العذاب فلا ريب أن شكرهم حينئذ ورضاهم ومحبتهم لربهم أكمل وأعظم مما لو قدر اشتراك جميع الخلق في النعيم. فالمحبة الحاصلة من أوليائه له والرضا والشكر وهم يشاهدون بني جنسهم في ضد ذلك من كل وجه أكمل وأتم، فالضد يظهر حسنه الضد، وبضدها تتبين الأشياء، ولولا خلق القبيح لما عرفت فضيلة الجمال والحسن، ولولا خلق الظلام لما عرفت فضيلة النور... وكذلك لو كان العباد كلهم مؤمنين لما عرف قدر الإيمان والنعمة به فتبارك من له في خلقه وأمره الحكم البوالغ والنعم السوابغ.
وقال الحكمة من ابتلاء الله لعبده بالمحن إن الله تعالى لم يبتله ليهلكه ، وإنما ابتلاه ليمتحن صبره وعبوديته ، فإن لله تعالى على العبد عبودية في الضراء ، كما له عليه عبودية في السراء ، وله عليه عبودية فيما يكره كما له عليه عبودية فيما يحب ، وأكثر الخلق يعطون العبودية فبما يحبون ، والشأن في إعطاء العبودية في المكاره ، ففيه تفاوتت مراتب العباد ، وبحسبه كانت منازلهم عند الله تعالىوذكر كلاما طويلا نافعا بل كل كتابه شفاء العليل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل قيم نافع
وروي عند الطبراني :إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ: انْطَلِقُوا إِلَى عَبْدِي، فَصُبُّوا عَلَيْهِ الْبَلَاءَ صَبًّا، فَيَأْتُونَهُ فَيَصُبُّونَ عَلَيْهِ الْبَلَاءَ، فَيَحْمَدُ اللهَ، فَيَرْجِعُونَ فَيَقُولُونَ: يَا رَبَّنَا صَبَبْنَا عَلَيْهِ الْبَلَاءَ صَبًّا كَمَا أَمَرْتَنَا، فَيَقُولُ: ارْجِعُوا فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَ صَوْتَهُ " فالابتلاء يقوي الطمع فيما عند الله ودعاه وبهذا ينعتق من عبادة الخلق والتعلق بهم
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وكلما قوي طمع العبد في فضل الله ورحمته ورجائه لقضاء حاجته، ودفع ضرورته؛ قويت عبوديته له، وحريته مما سواه، وانعتق من الخلق، فكما أن طمعه في المخلوق يوجب عبوديته له فيأسه منه يوجب غنى قلبه عنه، فكذلك طمع العبد في ربه، ورجاؤه له يوجب عبوديته له، وإعراض قلبه عن الطلب من غير الله، والرجاء له يوجب انصراف قلبه عن العبودية لله.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وأصحابه وسلم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على رسوله الأمين
أما بعد
فالله سبحانه من تمام قدرته وعظيمها أن خلق الاضداد فأخرج النار من الشجر الأخضر وخلق الخير والشر وهذا هو الثابت في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: أن تؤمن بالله ..وبالقدر خيره وشره.
وهكذا ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم وكفروا القدرية الأولى الذين أنكروا خلق الله للشر بدعوى التنزيه
والشر في مفعولاته سبحانه لا في فعله تعالى فهو الحكيم الخبير الذي أحاط بكل شيء علما وعلم عواقب الامور
فلا ينسب الشر اليه تعالى كما في الحديث (والشر ليس اليك) وينسب الى مفعولاته ففي الحديث (وقني شر ما قضيت) فخلق الشرور والاضرار والبلايا والشياطين وقبح بعض الصور وتشويه بعض المخلوقات بالعاهات ليس شرا ولا قبيحا منه سبحانه وتقدس لأن هذه الأمور خلقت للحصول على نتائج مهمة وكثيرة جدا فالملائكة لا درجات رقي لهم وذلك لعدم تسلط الشياطين عليهم لذا يكون مقامهم ثابتا لا يتبدل وكذا الحيوانات ليس لها مقامات ترتقي لها حيث لم تسلط عليها الشياطين بينما في عالم الانسان تمتد المسافة بين مراتب الرقي ودركات التدني إلى أبعاد مديدة وطويلة جدا إذ بدأ من الجبابرة النماردة والفراعنة وانتهاء إلى الصديقين والأولياء والأنبياء عليهم السلام لذا بسر التكليف وبخلق الشياطين والأضداد والتفاوت بين العباد وارسال الرسل انفتح ميدان الامتحان والجهاد والمسابقة و ذلك لكمال القدرة والقهر والحكمة التي لا نعلمها كلها وقد ظهر لنا شئ منها
روى الامام أحمد في الزهد أن موسى قال يارب هلا سويت بين عبادك قال إني أحببت أن أشكر. وكذلك روي عن آدم عليهم السلام
وأنقل فتوى بعض أهل العلم :
وقول الله تعالى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ {السجدة:7}.
بين العلماء أن معناها هو ما ذكرناه من كون المخلوقات كلها حسنة بإضافتها إلى فعل الرب تعالى، فخلقه لها حسن؛ لأنه جار على مقتضى الحكمة، وإن كان بعضها غير حسن في نفسه،
قال الشوكاني: وَالْمَعْنَى أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ فِي خَلْقِهِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُ أَتْقَنَ وَأَحْكَمَ خَلْقَ مَخْلُوقَاتِهِ، فَبَعْضُ الْمَخْلُوقَاتِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَسَنَةً فِي نَفْسِهَا، فَهِيَ مُتْقَنَةٌ مَحْكَمَةٌ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مَعْنَاهَا مَعْنَى: أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ. انتهى.
وقد أخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير عن ابن عباس في تفسير هذه الآية أنه قال: أما رَأَيْت القردة لَيست بحسنة، وَلكنه أحكم خلقهَا.
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: أحسن كل شَيْء خلقه ـ قَالَ: أحسن بِخلق كل شَيْء -الْقَبِيح، وَالْحسن، والحيات، والعقارب، وكل شَيْء مِمَّا خلق- وَغَيره لَا يحسن شَيْئًا من ذَلِك.
والحاصل أن الخلق بإضافته إلى الله حسن، ففعل الله تعالى حسن بلا شك.
وأما المخلوق: فقد يكون حسنًا، وقد يكون قبيحًا، وإنما خلقه الله على هذا الوجه لما له في ذلك من الحكمة البالغة، ومن ثم؛ كثر في النصوص وصف أشخاص بدمامة الخلقة، ونحو ذلك، كما في وصف زاهر في حديث أنس، وفيه: وكان رجلًا دميمًا.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
: فَالْمَخْلُوقُ بِاعْتِبَارِ الْحِكْمَةِ الَّتِي خُلِقَ لِأَجْلِهَا خَيْرٌ وَحِكْمَةٌ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ شَرٌّ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، فَذَلِكَ أَمْرٌ عَارِضٌ جُزْئِيٌّ، لَيْسَ شَرًّا مَحْضًا، بَلْ الشَّرُّ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْخَيْرُ الْأَرْجَحُ هُوَ خَيْرٌ مِنْ الْفَاعِلِ الْحَكِيمِ، وَإِنْ كَانَ شَرًّا لِمَنْ قَامَ بِهِ.
وَظَنُّ الظَّانِّ أَنَّ الْحِكْمَةَ الْمَطْلُوبَةَ التَّامَّةَ قَدْ تَحْصُلُ مَعَ عَدَمِهِ ، إنَّمَا يَقُولُهُ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ ، وَارْتِبَاطِ بَعْضِهَا بِبَعْضِ، فَإِنَّ الْخَالِقَ إذَا خَلَقَ الشَّيْءَ ، فَلَا بُدَّ مِنْ خَلْقِ لَوَازِمِهِ، فَإِنَّ وُجُودَ الْمَلْزُومِ بِدُونِ وُجُودِ اللَّازِمِ مُمْتَنِعٌ
" انتهى من "مجموع الفتاوى"(8/ 512) .
وقال أيضا
" وَاللَّهُ تَعَالَى ، وَإِنْ كَانَ خَالِقًا لِكُلِّ شَيْءٍ ، فَإِنَّهُ خَلَقَ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ الَّتِي بِاعْتِبَارِهَا كَانَ فِعْلُهُ حَسَنًا مُتْقَنًا، كَمَا قَالَ: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ) وَقَالَ: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) ؛ فَلِهَذَا لَا يُضَافُ إِلَيْهِ الشَّرُّ مُفْرَدًا، بَلْ إِمَّا أَنْ يَدْخُلَ فِي الْعُمُومِ، وَإِمَّا أَنْ يُضَافَ إِلَى السَّبَبِ، وَإِمَّا أَنْ يُحْذَفَ فَاعِلُهُ " .
انتهى من "منهاج السنة النبوية" (3/ 142) .
قال ابن القيم عليه الرحمة:
ولهذا كان شكر الملائكة وخضوعهم وذلهم لعظمته وجلاله بعد أن شاهدوا من إبليس ما جرى له ومن هاروت وماروت ما شاهدوه أعلى وأكمل مما كان قبله، وهذه حكمة الرب، ولهذا كان شكر الأنبياء وأتباعهم بعد أن عاينوا هلاك أعدائهم وانتقام الرب منهم وما أنزل بهم من بأسه أعلى وأكمل، وكذلك شكر أهل الجنة في الجنة وهم يشاهدون أعداءه المكذبين لرسله المشركين به في ذلك العذاب فلا ريب أن شكرهم حينئذ ورضاهم ومحبتهم لربهم أكمل وأعظم مما لو قدر اشتراك جميع الخلق في النعيم. فالمحبة الحاصلة من أوليائه له والرضا والشكر وهم يشاهدون بني جنسهم في ضد ذلك من كل وجه أكمل وأتم، فالضد يظهر حسنه الضد، وبضدها تتبين الأشياء، ولولا خلق القبيح لما عرفت فضيلة الجمال والحسن، ولولا خلق الظلام لما عرفت فضيلة النور... وكذلك لو كان العباد كلهم مؤمنين لما عرف قدر الإيمان والنعمة به فتبارك من له في خلقه وأمره الحكم البوالغ والنعم السوابغ.
وقال الحكمة من ابتلاء الله لعبده بالمحن إن الله تعالى لم يبتله ليهلكه ، وإنما ابتلاه ليمتحن صبره وعبوديته ، فإن لله تعالى على العبد عبودية في الضراء ، كما له عليه عبودية في السراء ، وله عليه عبودية فيما يكره كما له عليه عبودية فيما يحب ، وأكثر الخلق يعطون العبودية فبما يحبون ، والشأن في إعطاء العبودية في المكاره ، ففيه تفاوتت مراتب العباد ، وبحسبه كانت منازلهم عند الله تعالىوذكر كلاما طويلا نافعا بل كل كتابه شفاء العليل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل قيم نافع
وروي عند الطبراني :إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ: انْطَلِقُوا إِلَى عَبْدِي، فَصُبُّوا عَلَيْهِ الْبَلَاءَ صَبًّا، فَيَأْتُونَهُ فَيَصُبُّونَ عَلَيْهِ الْبَلَاءَ، فَيَحْمَدُ اللهَ، فَيَرْجِعُونَ فَيَقُولُونَ: يَا رَبَّنَا صَبَبْنَا عَلَيْهِ الْبَلَاءَ صَبًّا كَمَا أَمَرْتَنَا، فَيَقُولُ: ارْجِعُوا فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَ صَوْتَهُ " فالابتلاء يقوي الطمع فيما عند الله ودعاه وبهذا ينعتق من عبادة الخلق والتعلق بهم
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وكلما قوي طمع العبد في فضل الله ورحمته ورجائه لقضاء حاجته، ودفع ضرورته؛ قويت عبوديته له، وحريته مما سواه، وانعتق من الخلق، فكما أن طمعه في المخلوق يوجب عبوديته له فيأسه منه يوجب غنى قلبه عنه، فكذلك طمع العبد في ربه، ورجاؤه له يوجب عبوديته له، وإعراض قلبه عن الطلب من غير الله، والرجاء له يوجب انصراف قلبه عن العبودية لله.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وأصحابه وسلم