وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
الأخ الكريم ( العمري الزهراني )
كم كنت أتمنى أن تطرح موضوعاً متكاملا ، لا أن تثير شبهه – قد أثارها المستشرقون من قبل بغية هدم الركن الثاني للتشريع بعد القرآن الكريم وهو السنه النبويه - باجتزائك الأحاديث والآثار الوارده في النهي دون إيراد الأحاديث والأثار التي تبيح كتابة السنه النبويه ، والتي قد جاءت ناسخه لما كان قبلها من النهي.
وكي تكتمل الصوره ... أود أن أورد الأحاديث والآثار التي تجيز كتابة السنه ، ومن ثم نورد بعضاً من أقوال العلماء في اختلاف الروايات بين النهي والإباحه ، وختاماً نستخلص الحكمه من النهي عن كتابة الحديث أول الأمر ثم إجازة الكتابه
***
أولا :- أحاديث وآثار وارده في إجازة كتابة السنه النبويه
روى الترمذي في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : " ليس أحد من أصحاب رسول الله أكثر حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مني إلا عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب "
وروى أبو داود في سننه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أنه قال : كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه فنهتني قريش وقالوا : أتكتب كل شيء ؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا ، فأمسكت عن الكتاب ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأومأ بإصبعه إلى فيه فقال : اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق .
كما أخرج الحاكم بسنده وصححه وأقره الذهبي على شرط مسلم من حديث أنس رضي الله عنه أنه كان يقول : " قيدوا العلم بالكتاب "
ولقد أورد الدارمي في سننه أقوال من رخص في كتابة العلم من السلف الصالح فيما يلي :
كتب عن عمر بن عبد العزيز إلى أهل المدينة أن انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبوه فإني قد خفت دروس العلم وذهاب أهله . . .
عن أبي المليح قال : يعيبون علينا الكتاب وقد قال تعالى : عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ
حدثنا سوادة بن حيان قال سمعت معاوية بن قرة أبا إياس يقول : كان يقال من لم يكتب علمه لم يعد علمه علما .
وسئل أبو أمامة الباهلي عن كتاب العلم ، فقال : لا بأس بذلك . . .
عن سعيد بن جبير قال : كنت أسمع من ابن عمر وابن عباس الحديث بالليل ، فاكتبه في واسطة الرحل .
وقال أيضاً : كنت أسير مع ابن عباس في طريق مكة ليلا ، وكان يحدثني بالحديث فأكتبه في واسطة الرحل حتى أصبح فأكتبه ، وكنت أكتب عند ابن عباس في صحيفة ، واكتبه في نعلي .
وعن عبد الله بن حنش قال : رأيتهم يكتبون عند البراء بأطراف القصب على أكفهم .
وعن سليمان بن موسى : أنه رأى نافعا مولى ابن عمر يملي علمه ويكتبه بين يديه .
قال أبو قلابة : خرج علينا عمر بن عبد العزيز لصلاة الظهر ومعه قرطاس ، ثم خرج علينا لصلاة العصر ومعه ، فقلت له : يا أمير المؤمنين ما هذا الكتاب ؟ قال : حديث حدثني به عون بن عبد الله فأعجبني فكتبته .
ودعا الحسن بنيه وبني أخيه فقال : يا بني وبني أخي ، إنكم صغار قوم يوشك أن تكونوا كبار آخرين ، فتعلموا العلم ، فمن لم يستطع منكم أن يرويه ، أو قال يحفظه فليكتبه وليضعه في بيته
ولقد جمع الخطيب البغدادي أيضا في كتابه ( تقييد العلم ) بعض أقوال السلف الصالح ممن رخص في كتابة العلم منها ما يلي :
أن حمادا قال : أخذت من ثمامة بن عبد الله بن أنس كتابا ، زعم أن أبا بكر كتبه لأنس وعليه خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه مصدقا وكتبه له ، وإذا فيه : هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين ، التي أمر الله تعالى بها نبيه صلى الله عليه وسلم ، فمن سئلها من المسلمين على وجهها فليعطها .
وعن عمر بن الخطاب قال : قيدوا العلم بالكتاب .
وعن الأعمش عن إبراهيم عن أبيه قال : خطبنا علي بن أبي طالب فقال : من زعم أن عندنا شيئا نقرأه ، ليس في كتاب الله تعالى وهذه الصحيفة ، قال : صحيفة معلقة في سيفه ، فيها أسنان الإبل وشيئا من الجراحات - فقد كذب ، وفيها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : المدينة حرم ما بين عير إلى ثور ، فمن أحدث فيها حدثا ، أو أوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا ، وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم ، من أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا .
وكان ابن عباس يأتي أبا رافع فيقول : ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم كذا ؟ ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم كذا ؟ ومع ابن عباس ألواح يكتب فيها .
وكان الشعبي يقول : الكتاب قيد العلم ، إذا سمعتم مني شيئا فاكتبوه ولو في حائط .
وعن الحسن قال : إنما نكتبه - يعني الحديث - لنتعاهده .
وقالوا لقتادة نكتب ما نسمع منك ؟ قال : وما يمنعك أن تكتب وقد أخبرك اللطيف الخبير أنه يكتب قال : قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنْسَى .
وعن أبي قلابة قال : الكتاب أحب إلي من النسيان .
وعن صالح بن كيسان قال : اجتمعت أنا والزهري ونحن نطلب العلم ، فقلنا نكتب السنن ، فكتبنا ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال نكتب ما جاء عن أصحابه فإنه سنة ، فقلت أنا : ليس بسنة فلا نكتبه ، قال : فكتب ، ولم أكتب ، فأنجح وضيعت.
***
ثانيا :- الجمع بين اختلاف الروايات في شأن تدوين السنه النبويه
وهنا أود ايراد بعضاً من أقوال العلماء في هذا الشأن حتى يزداد الأمر وضوحاً وتنجلى الشبهه المثاره
يقول ابن القيم في مختصر سنن أبي داود ما نصه :- " قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن الكتابة والإذن فيها ، والإذن متأخر فيكون ناسخا لحديث النهي ، فإنه صلى الله عليه وسلم ، قال في غزاة الفتح : اكتبوا لأبي شاة يعني خطبته التي سأل أبو شاة كتابتها " وأذن لعبد الله بن عمرو في الكتابة ، وحديثه متأخر عن النهي لأنه لم يزل يكتب ، ومات وعنده كتابته وهي الصحيفة التي كان يسميها الصادقة ولو كان النهي عن الكتابة متأخرا لمحاها عبد الله ، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بمحو ما كتب عنه غير القرآن ، فلما لم يمح وأثبتها دل على أن الإذن في الكتابة متأخر عن النهي عنها ، وهذا واضح والحمد لله ، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لهم في مرض موته : ائتوني باللوح والدواة والكتف ؛ لأكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا - وهذا إنما يكون كتابة كلامه بأمره وإذنه .
وكتب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم كتابا عظيما فيه الديات وفرائض الزكاة وغيرها ، وكتبه في الصدقات معروفة . . . وإنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابة غير القرآن في أول الإسلام لئلا يختلط القرآن بغيره فلما علم القرآن وتميز وأفرد بالضبط والحفظ ، وأمنت عليه مفسدة الاختلاط أذن في الكتابة .
وقد قال بعضهم : إنما كان النهي عن كتابة الحديث والقرآن في صحيفة واحدة خشية الالتباس ، وكان بعضهم يرخص فيها حتى يحفظ ، فإذا حفظ محاها . . . وقد وقع الاتفاق على جواز الكتابة وإبقائها ، ولولا الكتابة ما كان بأيدينا اليوم من السنة إلا أقل القليل "
وقال الخطابي : " يشبه أن يكون النهي متقدما وآخر الأمرين الإباحة . وقد قيل إنه إنما نهي أن يكتب الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة لئلا يختلط به ويشتبه على القارئ ، فأما أن يكون نفس الكتاب محظورا وتقييد العلم منهيا عنه فلا . . . وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتبليغ وقال : ليبلغ الشاهد الغائب ، فإذا لم يقيدوا ما يسمعونه منه تعذر التبليغ ، ولم يؤمن ذهاب العلم ، وأن يسقط أكثر الحديث ، فلا يبلغ آخر القرون من الأمة ، والنسيان من طبع أكثر البشر والحفظ غير مأمون عليه الغلط . ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل اشتكى إليه سوء الحفظ استعن بيمينك . . . وقد كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتبا في الصدقات والمعاقل والديات أو كتب عنه ، فعملت بها الأمة ، وتناقلها الرواة ، ولم ينكرها أحد من علماء السلف والخلف ، فدل ذلك على جواز كتابة الحديث والعلم "
وقال الخطيب البغدادي : " وقد ثبت أن كراهة من كتب الكتاب من الصدر الأول ، إنما هي لئلا يضاهي بكتاب الله تعالى غيره ، أو يشتغل عن القرآن بسواه ، ونهى عن الكتب القديمة التي تتخذ ، لأنه لا يعرف حقها من باطلها ، وصحيحها من فاسدها ، مع أن القرآن كفى منها ، وصار مهيمنا عليها . ونهي عن كتب العلم في صدر الإسلام وجدته لقلة الفقهاء في ذلك الوقت ، والمميزين بين الوحي وغيره ، لأن أكثر الأعراب لم يكونوا فقهوا في الدين ، ولا جالسوا العلماء العارفين ، فلم يؤمن أن يلحقوا ما يجدون من الصحف بالقرآن ، ويعتقدوا أن ما اشتملت عليه من كلام الرحمن . . . وأمر الناس بحفظ السنن ، إذ الإسناد قريب والعهد غير بعيد ، ونهي عن الاتكال على الكتاب ، لأن ذلك يؤدي إلى اضطراب الحفظ حتى يكاد يبطل ، وإذا عدم الكتاب قوى لذلك الحفظ الذي يصحب الإنسان في كل مكان . ولهذا قال سفيان الثوري : . . . بئس المستودع العلم القراطيس . . . . وكان سفيان يكتب ، أفلا ترى أن سفيان ذم الاتكال على الكتاب وأمر بالحفظ ، وكان مع ذلك يكتب احتياطا واستيثاقا . . . . قال الأوزاعي : كان هذا العلم شيئا شريفا ، إذ كانوا يتلقونه ويتذاكرونه بينهم . . فلما صار إلى الكتب ذهب نوره وصار إلى غير أهله . قلت إنما اتسع الناس في كتب العلم ، وعولوا على تدوينه في الصحف بعد الكراهة لذلك ، لأن الروايات انتشرت والأسانيد طالت ، وأسماء الرجال وكناهم وأنسابهم كثرت وصار علم الحديث في هذا الزمان أثبت من علم الحافظ مع رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن ضعف حفظه في الكتاب ، وعمل السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الخالفين بذلك ".
وقال الأبي : " كره كثير من السلف كتب العلم لهذا النهي - النهي عن كتابة الحديث - وأجازه الأكثر ، ثم وقع الإجماع على جوازه . . . والحديث محمول عند بعضهم على كتب الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة خوف أن يختلط به ويشتبه على القارئ ، ويحتمل أن النهي منسوخ "
وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم :- " كان بين السلف من الصحابة والتابعين اختلاف كثير في كتابة العلم ، فكرهها كثيرون منهم ، وأجازها أكثرهم ، ثم أجمع المسلمون على جوازها وزال ذلك الخلاف "
***
ثالثا :- مما سبق يتبين لنا أن النهي عن كتابة السنه كان له أسبابه ومبرراته وهي
أولا :- أن النهي كان في أول الإسلام مخافة اختلاط الحديث بالقرآن ، فلما أُمِن الالتباس ، سمح لهم النبي صلى الله عليه وسلم بتدوين الحديث وكتابته ، فكانت أحاديث الإباحة ناسخة لأحاديث المنع .
ثانياً:- أن النهي إنما كان عن كتابة الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة ؛ لأنهم كانوا يسمعون تأويل الآية ، فربما كتبوه معها ، فنُهوا عن ذلك لخوف الاشتباه .
ثالثاً :- أن النهي كان في حق من يوثق بحفظه مخافة أن يتَّكل على الكتابة ، وأما الإذن فهو في حق من لا يوثق بحفظه .
رابعاً :- أن النهي كان لترويض المسلمين على مذاكرة الحديث النبوي وتعهده بالحفظ وعدم إهمال السنة اعتمادا على أنها مدونة في القراطيس
***
والله الموفق