- إنضم
- 30 نوفمبر 2014
- المشاركات
- 4,420
- التفاعل
- 26,638
- النقاط
- 122
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قبل أن نبدأ ...هذه قصه متواتره رواها أدباء العصر – ومنهم الاستاذ ( مصطفى صادق الرفاعي) في كتابه (وحي القلم) - عن مؤرخي خرسان ، وقد وردت في ترجمة التابعي (أحمد بن مسكين) ، وهو أحد الزهاد في القرن الثالث الهجري .
يقول صاحب القصة التابعى (أحمد بن مسكين) :
أني امتُحِنتُ بالفقر في سنة تسع عشر ومائتين، وانحَسَمَت مادتي.. وقَحِطَ منزلي قحطا شديدا جمعَ عليَّ الحاجة والضـُّر والمسكنة.. ، إذ لم يكن في الدار إلا ترابُها وحجارتُها وأجذاعُها.. ولي امرأة .. ولي منها طفل صغير.. وقد طوينا على جوع يخسِفُ بالجوع خسفا كما تهبط الأرض.. فَلَتَمنـَّيتُ حينئذ لو كنا جرذانا فنقرضَ الخشب!!
فقلتُ في نفسي : " إذا لم نأكل الخشب والحجارة.. فلنأكل بثمنها.. "
وجمعتُ نيتي على بيع الدار والتحول عنها.. و ثم خَرَجتُ لصلاة الصبح.. ولما قُضِيَت الصلاة.. رفعَ الناسُ أكفهم يدعون الله تعالى.. وجرى لِساني بهذا الدعاء:
" اللهم بك أعوذ أن يكون فقري في ديني.. أسألك النفع الذي يُصلِحُني بطاعتك.. وأسألك بركة الرضى بِقضائك..وأسألك القوة على الطاعة والرضا.. يا أرحم الراحمين.. "
ثم جلستُ أتأمل شأني ، وأطلتُ الجلوس في المسجد .. فخرجتُ أتسببُ لبيعِ الدار..فما سرتُ غير بعيد.. حتى لقِيَني (أبو نصر الصياد) وكنتُ أعرفُه قديما، فقلت: " يا أبا نصر! أنا على بيع الدار.. فقد ساءت الحال.. . فأقرِضني شيئا يُمسِكُني على يومي هذا بالقوام من العيش حتى أبيع الدار وأوفيك ".
فقال: " يا سيدي! خذ هذا المنديل إلى عيالك، وأنا على أثَرِك لاحق بك إلى المنزل ".
ثم ناولني منديلا فيه رُقاقتان بينهما حلوى، وقال: " إنهما والله بركة الشيخ.. "
قلتُ: " وما قصة الشيخ ؟ "
قال: " وقفتُ أمس على باب هذا المسجد وقد انصرف الناسُ من صلاةِ الجمعة، فمر بي أبو نصر، بِشرٌ الحافي (وهو الزاهد العظيم بشر بن الحارث المعروف بالحافي.. توفي سنة 327 هـ وكان واحد الدنيا في ورعه وتقواه، وقيل له: (الحافي) لأنه كان في حداثته يمشي إلى طلب العلم حافيا، إجلالا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم).
فقال (بشر الحافي لأبي نصر الصياد): " مالي أراكَ في هذا الوقت؟ "
قلتُ: " ما في البيت دقيق ولا خبز ولا درهم ولا شيء يُباع.. "
فقال: " الله المستعان، احمل شبكتك وتعال إلى الخندق.. "
فحملتها وذهبتُ معه.. فلما انتهينا إلى الخندق قال لي: " توضأ وصل ركعتين ".. ففعلتُ..
فقال: " سم الله تعالى وألق الشبكة ".... فخرجت سمكة عظيمة لم أر مثلَها سِمنا وعظما وفراهة..
فقال: " خذها وبعها واشتر بثمنها ما يُصلِحُ عيالك ".. فحملتُها.. فابتعتُ لأهلي ما يحتاجون إليه.. فلما أكلتُ وأكلوا.. ذكرتُ الشيخ.. فقلتُ.. أهدي له شيئا.. فأخذتُ الرقاقتين وجعلتُ بينهما هذه الحلوى وأتيتُ إليه فطرقتُ الباب..
فقال : مَن ؟
قلتُ : أبو نصر !
قال : " افتح وضع ما معكَ في الدهليز وادخل " .. فدخلتُ وحدثتُه بما صنعتُ .. فقال : " الحمد لله على ذلك .. "
فقلتُ : " إني هيأتُ للبيتِ شيئا .. وقد أكلوا وأكلتُ ومعي رُقاقتان فيهما حلوى .. "
قال : " يا أبا نصر ! لو أطعَمنا أنفُسَنا هذا .. ما خرَجَتِ السمكة ! اذهب كُلهُ أنتَ وعيالك " ..
قال أحمد بن مسكين: " وكنتُ من الجوع بحيثُ لو أصبتُ رغيفا لحسِبتُه مائدة أُنزِلَت من السماء.. ولكنَّ كلمة الشيخ عن السمكة، أشبَعَتني بمعانيها شِبَعا ليسَ من هذه الدنيا.. كأنما طَعِمتُ ثمرة من ثمار الجنة "..
قال أحمد بن مسكين: (( وأخذتُ الرقاقتين وأنا أقول في نفسي: لعن الله هذه الدنيا! إن من هوانها على الله، أن الإنسان فيها يَلبَسُ وجهه كما يلبَسُ نعله.. فلو أن إنسانا كانت له نظرة ملائكية ثم اعترضَ الخلقَ ينظُرُ في وجوههم، لرأى عليها وُحولا وأقذارا كالتي في نعالهم أو أقذرَ أو أقبح . ولكني أحسستُ أن في هاتين الرقاقتين.. سرَّ الشيخ.. ورأيتُهما في يدي كالوثيقتين بخير كثير.. فقلت: على بركة الله.. ومضيتُ إلى داري..
فلما كنتُ في الطريق.. لقيتني امرأة معها صبي، فنَظَرَت إلى المنديل وقالت:" يا سيدي.. هذا طفل يتيم جائع ولا صبرَ له على الجوع.. فأطعِمهُ شيئا يرحمُك الله.. " ، ونَظَرَ إليَّ الطفل نظرة لا أنساها.. حسِبتُ فيها خُشوعَ ألف عابد يعبدون الله تعالى منقطعين عن الدنيا.. بل ما أظن ألف عابد يستطيعون أن يُروا الناس نظرة واحدة كالتي تكون في عين صبي يتيم جائع يسأل الرحمة.. ))
قال أحمد بن مسكين: (( وخُيـِّلَ إلي حينئذ أن الجنـَّة نزلت إلى الأرض.. تعرِضُ نفسها على مَن يُشبِعُ هذا الطفل وأمه، والناسُ عُميٌ لا يُبصِرونها
وذَكرتُ امرأتي وابنها.. وهما جائعان منذ أمس، غير أني لم أجد لهُما في قلبي معنى الزوجة والولد.. بل معنى هذه المرأة المحتاجة وطفلها.. فأسقطتُهما عن قلبي.. ودفعتُ ما في يدي للمرأة وقلتُ لها: خذي وأطعمي ابنك.. ووالله ما أملكُ بيضاء ولا صفراء.. وإن في داري لَمَن هو أحوجُ إلى هذا الطعام، ولولا هذه الخَلـَّةُ بي تقدمتُ بما يُصلحُكِ.. فدمَعَت عيناها، وأشرق وجه الصبي، ولكن طَمَّ على قلبي ما أنا فيه فلم أجد للدمعة معنى الدمعة.. ولا للبسمة معنى البسمة.. وقلتُ في نفسي: أما أنا فأطوي إن لم أُصِب طعاما، فقد كان أبو بكر الصديق يطوي ستة أيام.. وكان ابن عمر يطوي، وكان فلان وفلان ممن حفظنا أسماءهم وروينا أخبارهم.. ولكن !! مَن للمرأة وابنها بِمِثلِ عقدي ونيـَّتي؟ وكيف لي بِهِما؟
ومشيتُ وأنا منكسر منقبض.. وكأني كنتُ نسيتُ كلمة الشيخ: "لو أطعمنا أنفُسنا هذا ماخرجَتِ السمكة"، فذكرتُها وصرفتُ خاطري إليها
فأنا كذلك إذ مرَّ أبو نصر الصياد وكأنه مُستطار فرحا .. ))
فقال : " يا أبا محمد .. ما يُجلِسُكَ هاهنا وفي دارِكَ الخيرُ والغنى ؟ "
قلتُ : " سبحان الله !! مِن أينَ خرجَتِ السَمكةُ يا أبا نصر ؟ "
قال : " إني لفي الطريق إلى منزلك، ومعي ضرورة من القوت أخذتُها لِعِيالِكَ، ودراهِمُ استَدَنتُها لك.. إذا رجل يستدِلُّ الناسَ على أبيكَ أو أحدٍ من أهله، ومعه أثقالٌ وأحمال.. فقلتُ له: أنا أدلك.. ومشيتُ معه أسألُه عن خبره وشأنه عند أبيك.. "
فقال: (( إنه تاجر من البصرة، وقد كان أبوكَ أودَعَهُ مالا من ثلاثين سنة.. فأفلَسَ وانكسر المال ثم تركَ البصرة إلى خُراسان.. فصلح أمره على التجارة هناك.. وأيسَرَ بعد المحنة.. واستظهَرَ بعد الخِذلان.. وأقبَل جدُّه بالثـَّراءِ والغِنى.. فعاد إلى البصرة، وأراد أن يتحلل، فجاءكَ بالمالِ وعليهِ ما كان يربحُهُ في هذه الثلاثين سنة.. وإلى ذلكَ طرائِفُ وهدايا. ))
قال أحمد بن مسكين: وأنقلبُ إلى داري فإذا مالٌ جمٌّ وحالٌ جميلة!!
فقلتُ: صدق الشيخ "لو أطعمنا أنفسنا هذا ما خرجت السمكة" !!
(( وآليتُ لَيَعلَمَنَّ الله شُكري هذه النعمة.. فلم تكُن لي همة إلا البحث عن المرأة المحتاجة وابنها.. فكفيتُهُما وأجريتُ عليهما رِزقا.. ثم اتجرتُ بالمال.. وجعلتُ أربـُّه بالمعروف والصنيعة والإحسان وهو مُقبِلٌ يزداد ولا ينقُص، حتى تموَّلتُ وتأثـَّلتُ..وكأني قد أعجبتني نفسي.. وسَرَّني أني قد ملأتُ سِجـِلاتِ الملائكة بِحَسَناتي.. ورجوتُ أن أكونَ قد كُتِبتُ عند الله في الصالحين..
فَنِمتُ ليلة فرأيتُني في يوم القيامة.. والخلقُ يموجُ بعضُهم في بعض.. والهول هول الكونِ الأعظم على الإنسانِ الضعيف.. يُسألُ عن كل ما مسه من هذا الكون.
وسمعتُ الصائِحَ يقول: " يا معشر بني آدم!! سَجَدَت البهائِمُ شُكرا لله أنهُ لم يجعَلها من آدم.. "
ورأيتُ الناسَ وقد وُسـِّعَت أبدانُهُم فهُم يحمِلون أوزارهُم على ظهورِهِم مخلوقَةً مُجَسـَّمة.. حتى لكأن الفاسِقَ على ظهرِهِ مدينَةٌ كلها مُخزِيات!!!
وقيل: وُضِعَت الموازين.. وجيءَ بي لوزنِ أعمالي.. فجُعِلَت سيئاتي في كِفـَّة واُلقِيَت سِجـِلاتُ حسناتي في الأخرى..
فطاشَتِ السِجِلات.. ورَجَحَت السيئات.. كأنما وزَنوا الجبل الصخري العظيم الضخم.. بلفافة من القطن.. ثم جعلوا يُلقُون الحسنة بعد الحسنة مما كنتُ أصنعه، فإذا تحتَ كل حسنة شهوةٌ خفيةٌ من شهوات النفس: كالرياء والغرور وحب المحمدة عند الناس.. وغيرها.. فلم يسلَم لي شيء.. وهلكت عني حُجـَّتي، إذ الحجة ما يُبَينُهُ الميزان.. والميزان لم يدل إلا على أني فارغ..
وسَمِعتُ الصوت: ألم يبقَ لهُ شيء؟
فقيل: بَقِيَ هذا.. وأنظر !! لأرى ما هذا الذي بقي !!
فإذا الرقاقتين اللتانِ أحسَنتُ بهما إلى المرأة وابنها !!
فأيقنتُ أني هالك، فلقد كنتُ أحسِنُ بمئة دينار ضَربَة واحدة فما أغنت عني.. ورأيتُها في الميزان مع غيرها شيئا مُعلـَّقا.. كالغمام حينَ يكون ساقطا بين السماء والأرض: لا هو في هذه ولا هو في تلك..
ووُضِعَت الرقاقتان.. وسمعتُ القائل: لقد طار نصفُ ثوابهما في ميزان أبي نصر الصياد.. فانخذلتُ انخذالا شديدا، حتى لو كُسِرتُ نصفين لكان أخفَّ علي وأهون.. بيد أني نظرتُ فرأيتُ كِفة الحسنات قد نزَلَت منزلة.. ورجحَت بعض الرجحان..
وسمعتُ الصوت: ألم يبق شيء ؟ فقيل بقي هذا...
وأنظر ما هذا الذي بقي، فإذا جوع امرأتي وولدي في ذلك اليوم !!
وإذا هو شيءٌ يوضعُ في الميزان.. وإذا هو ينزل بكفة ويرتفع بالأخرى حتى اعتدلتا بالسوية !!
وثبتَ الميزان على ذلك، فكنتُ بين الهلاكِ والنجاة..
وأسمعُ الصوت : ألم يبق شيء ؟
فقيل : بقي هذا ..
ونظرتُ فإذا دُموعُ تلك المرأة المسكينة حينَ بكت من أثَر المعروف في نفسِها.. ومن إيثاري إياها وابنها على أهلي.. ووُضِعَت غَرغَرةُ عينيها في الميزانِ ففارت..فطَمـَّت كأنها لُجـَّة.. من تحتِ اللجـَّةِ بحرٌ.. وإذا سمكة هائلة.. قد خرجت من اللجة.. وقعَ في نفسي أنها روح تلك الدموع.. فجعَلَت تعظُمُ ولا تزال تعظُمُ.. والكفة ترجح ولا تزال ترجح.. حتى سمِعتُ الصوتَ يقول: قد نجا..
وصِحتُ صيحةً انتبَهتُ لها .. فإذا أنا أقول: " لو أطعمنا أنفسنا هذا ما خرجَتِ السمكة " ))
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قبل أن نبدأ ...هذه قصه متواتره رواها أدباء العصر – ومنهم الاستاذ ( مصطفى صادق الرفاعي) في كتابه (وحي القلم) - عن مؤرخي خرسان ، وقد وردت في ترجمة التابعي (أحمد بن مسكين) ، وهو أحد الزهاد في القرن الثالث الهجري .
يقول صاحب القصة التابعى (أحمد بن مسكين) :
أني امتُحِنتُ بالفقر في سنة تسع عشر ومائتين، وانحَسَمَت مادتي.. وقَحِطَ منزلي قحطا شديدا جمعَ عليَّ الحاجة والضـُّر والمسكنة.. ، إذ لم يكن في الدار إلا ترابُها وحجارتُها وأجذاعُها.. ولي امرأة .. ولي منها طفل صغير.. وقد طوينا على جوع يخسِفُ بالجوع خسفا كما تهبط الأرض.. فَلَتَمنـَّيتُ حينئذ لو كنا جرذانا فنقرضَ الخشب!!
فقلتُ في نفسي : " إذا لم نأكل الخشب والحجارة.. فلنأكل بثمنها.. "
وجمعتُ نيتي على بيع الدار والتحول عنها.. و ثم خَرَجتُ لصلاة الصبح.. ولما قُضِيَت الصلاة.. رفعَ الناسُ أكفهم يدعون الله تعالى.. وجرى لِساني بهذا الدعاء:
" اللهم بك أعوذ أن يكون فقري في ديني.. أسألك النفع الذي يُصلِحُني بطاعتك.. وأسألك بركة الرضى بِقضائك..وأسألك القوة على الطاعة والرضا.. يا أرحم الراحمين.. "
ثم جلستُ أتأمل شأني ، وأطلتُ الجلوس في المسجد .. فخرجتُ أتسببُ لبيعِ الدار..فما سرتُ غير بعيد.. حتى لقِيَني (أبو نصر الصياد) وكنتُ أعرفُه قديما، فقلت: " يا أبا نصر! أنا على بيع الدار.. فقد ساءت الحال.. . فأقرِضني شيئا يُمسِكُني على يومي هذا بالقوام من العيش حتى أبيع الدار وأوفيك ".
فقال: " يا سيدي! خذ هذا المنديل إلى عيالك، وأنا على أثَرِك لاحق بك إلى المنزل ".
ثم ناولني منديلا فيه رُقاقتان بينهما حلوى، وقال: " إنهما والله بركة الشيخ.. "
قلتُ: " وما قصة الشيخ ؟ "
قال: " وقفتُ أمس على باب هذا المسجد وقد انصرف الناسُ من صلاةِ الجمعة، فمر بي أبو نصر، بِشرٌ الحافي (وهو الزاهد العظيم بشر بن الحارث المعروف بالحافي.. توفي سنة 327 هـ وكان واحد الدنيا في ورعه وتقواه، وقيل له: (الحافي) لأنه كان في حداثته يمشي إلى طلب العلم حافيا، إجلالا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم).
فقال (بشر الحافي لأبي نصر الصياد): " مالي أراكَ في هذا الوقت؟ "
قلتُ: " ما في البيت دقيق ولا خبز ولا درهم ولا شيء يُباع.. "
فقال: " الله المستعان، احمل شبكتك وتعال إلى الخندق.. "
فحملتها وذهبتُ معه.. فلما انتهينا إلى الخندق قال لي: " توضأ وصل ركعتين ".. ففعلتُ..
فقال: " سم الله تعالى وألق الشبكة ".... فخرجت سمكة عظيمة لم أر مثلَها سِمنا وعظما وفراهة..
فقال: " خذها وبعها واشتر بثمنها ما يُصلِحُ عيالك ".. فحملتُها.. فابتعتُ لأهلي ما يحتاجون إليه.. فلما أكلتُ وأكلوا.. ذكرتُ الشيخ.. فقلتُ.. أهدي له شيئا.. فأخذتُ الرقاقتين وجعلتُ بينهما هذه الحلوى وأتيتُ إليه فطرقتُ الباب..
فقال : مَن ؟
قلتُ : أبو نصر !
قال : " افتح وضع ما معكَ في الدهليز وادخل " .. فدخلتُ وحدثتُه بما صنعتُ .. فقال : " الحمد لله على ذلك .. "
فقلتُ : " إني هيأتُ للبيتِ شيئا .. وقد أكلوا وأكلتُ ومعي رُقاقتان فيهما حلوى .. "
قال : " يا أبا نصر ! لو أطعَمنا أنفُسَنا هذا .. ما خرَجَتِ السمكة ! اذهب كُلهُ أنتَ وعيالك " ..
قال أحمد بن مسكين: " وكنتُ من الجوع بحيثُ لو أصبتُ رغيفا لحسِبتُه مائدة أُنزِلَت من السماء.. ولكنَّ كلمة الشيخ عن السمكة، أشبَعَتني بمعانيها شِبَعا ليسَ من هذه الدنيا.. كأنما طَعِمتُ ثمرة من ثمار الجنة "..
قال أحمد بن مسكين: (( وأخذتُ الرقاقتين وأنا أقول في نفسي: لعن الله هذه الدنيا! إن من هوانها على الله، أن الإنسان فيها يَلبَسُ وجهه كما يلبَسُ نعله.. فلو أن إنسانا كانت له نظرة ملائكية ثم اعترضَ الخلقَ ينظُرُ في وجوههم، لرأى عليها وُحولا وأقذارا كالتي في نعالهم أو أقذرَ أو أقبح . ولكني أحسستُ أن في هاتين الرقاقتين.. سرَّ الشيخ.. ورأيتُهما في يدي كالوثيقتين بخير كثير.. فقلت: على بركة الله.. ومضيتُ إلى داري..
فلما كنتُ في الطريق.. لقيتني امرأة معها صبي، فنَظَرَت إلى المنديل وقالت:" يا سيدي.. هذا طفل يتيم جائع ولا صبرَ له على الجوع.. فأطعِمهُ شيئا يرحمُك الله.. " ، ونَظَرَ إليَّ الطفل نظرة لا أنساها.. حسِبتُ فيها خُشوعَ ألف عابد يعبدون الله تعالى منقطعين عن الدنيا.. بل ما أظن ألف عابد يستطيعون أن يُروا الناس نظرة واحدة كالتي تكون في عين صبي يتيم جائع يسأل الرحمة.. ))
قال أحمد بن مسكين: (( وخُيـِّلَ إلي حينئذ أن الجنـَّة نزلت إلى الأرض.. تعرِضُ نفسها على مَن يُشبِعُ هذا الطفل وأمه، والناسُ عُميٌ لا يُبصِرونها
وذَكرتُ امرأتي وابنها.. وهما جائعان منذ أمس، غير أني لم أجد لهُما في قلبي معنى الزوجة والولد.. بل معنى هذه المرأة المحتاجة وطفلها.. فأسقطتُهما عن قلبي.. ودفعتُ ما في يدي للمرأة وقلتُ لها: خذي وأطعمي ابنك.. ووالله ما أملكُ بيضاء ولا صفراء.. وإن في داري لَمَن هو أحوجُ إلى هذا الطعام، ولولا هذه الخَلـَّةُ بي تقدمتُ بما يُصلحُكِ.. فدمَعَت عيناها، وأشرق وجه الصبي، ولكن طَمَّ على قلبي ما أنا فيه فلم أجد للدمعة معنى الدمعة.. ولا للبسمة معنى البسمة.. وقلتُ في نفسي: أما أنا فأطوي إن لم أُصِب طعاما، فقد كان أبو بكر الصديق يطوي ستة أيام.. وكان ابن عمر يطوي، وكان فلان وفلان ممن حفظنا أسماءهم وروينا أخبارهم.. ولكن !! مَن للمرأة وابنها بِمِثلِ عقدي ونيـَّتي؟ وكيف لي بِهِما؟
ومشيتُ وأنا منكسر منقبض.. وكأني كنتُ نسيتُ كلمة الشيخ: "لو أطعمنا أنفُسنا هذا ماخرجَتِ السمكة"، فذكرتُها وصرفتُ خاطري إليها
فأنا كذلك إذ مرَّ أبو نصر الصياد وكأنه مُستطار فرحا .. ))
فقال : " يا أبا محمد .. ما يُجلِسُكَ هاهنا وفي دارِكَ الخيرُ والغنى ؟ "
قلتُ : " سبحان الله !! مِن أينَ خرجَتِ السَمكةُ يا أبا نصر ؟ "
قال : " إني لفي الطريق إلى منزلك، ومعي ضرورة من القوت أخذتُها لِعِيالِكَ، ودراهِمُ استَدَنتُها لك.. إذا رجل يستدِلُّ الناسَ على أبيكَ أو أحدٍ من أهله، ومعه أثقالٌ وأحمال.. فقلتُ له: أنا أدلك.. ومشيتُ معه أسألُه عن خبره وشأنه عند أبيك.. "
فقال: (( إنه تاجر من البصرة، وقد كان أبوكَ أودَعَهُ مالا من ثلاثين سنة.. فأفلَسَ وانكسر المال ثم تركَ البصرة إلى خُراسان.. فصلح أمره على التجارة هناك.. وأيسَرَ بعد المحنة.. واستظهَرَ بعد الخِذلان.. وأقبَل جدُّه بالثـَّراءِ والغِنى.. فعاد إلى البصرة، وأراد أن يتحلل، فجاءكَ بالمالِ وعليهِ ما كان يربحُهُ في هذه الثلاثين سنة.. وإلى ذلكَ طرائِفُ وهدايا. ))
قال أحمد بن مسكين: وأنقلبُ إلى داري فإذا مالٌ جمٌّ وحالٌ جميلة!!
فقلتُ: صدق الشيخ "لو أطعمنا أنفسنا هذا ما خرجت السمكة" !!
(( وآليتُ لَيَعلَمَنَّ الله شُكري هذه النعمة.. فلم تكُن لي همة إلا البحث عن المرأة المحتاجة وابنها.. فكفيتُهُما وأجريتُ عليهما رِزقا.. ثم اتجرتُ بالمال.. وجعلتُ أربـُّه بالمعروف والصنيعة والإحسان وهو مُقبِلٌ يزداد ولا ينقُص، حتى تموَّلتُ وتأثـَّلتُ..وكأني قد أعجبتني نفسي.. وسَرَّني أني قد ملأتُ سِجـِلاتِ الملائكة بِحَسَناتي.. ورجوتُ أن أكونَ قد كُتِبتُ عند الله في الصالحين..
فَنِمتُ ليلة فرأيتُني في يوم القيامة.. والخلقُ يموجُ بعضُهم في بعض.. والهول هول الكونِ الأعظم على الإنسانِ الضعيف.. يُسألُ عن كل ما مسه من هذا الكون.
وسمعتُ الصائِحَ يقول: " يا معشر بني آدم!! سَجَدَت البهائِمُ شُكرا لله أنهُ لم يجعَلها من آدم.. "
ورأيتُ الناسَ وقد وُسـِّعَت أبدانُهُم فهُم يحمِلون أوزارهُم على ظهورِهِم مخلوقَةً مُجَسـَّمة.. حتى لكأن الفاسِقَ على ظهرِهِ مدينَةٌ كلها مُخزِيات!!!
وقيل: وُضِعَت الموازين.. وجيءَ بي لوزنِ أعمالي.. فجُعِلَت سيئاتي في كِفـَّة واُلقِيَت سِجـِلاتُ حسناتي في الأخرى..
فطاشَتِ السِجِلات.. ورَجَحَت السيئات.. كأنما وزَنوا الجبل الصخري العظيم الضخم.. بلفافة من القطن.. ثم جعلوا يُلقُون الحسنة بعد الحسنة مما كنتُ أصنعه، فإذا تحتَ كل حسنة شهوةٌ خفيةٌ من شهوات النفس: كالرياء والغرور وحب المحمدة عند الناس.. وغيرها.. فلم يسلَم لي شيء.. وهلكت عني حُجـَّتي، إذ الحجة ما يُبَينُهُ الميزان.. والميزان لم يدل إلا على أني فارغ..
وسَمِعتُ الصوت: ألم يبقَ لهُ شيء؟
فقيل: بَقِيَ هذا.. وأنظر !! لأرى ما هذا الذي بقي !!
فإذا الرقاقتين اللتانِ أحسَنتُ بهما إلى المرأة وابنها !!
فأيقنتُ أني هالك، فلقد كنتُ أحسِنُ بمئة دينار ضَربَة واحدة فما أغنت عني.. ورأيتُها في الميزان مع غيرها شيئا مُعلـَّقا.. كالغمام حينَ يكون ساقطا بين السماء والأرض: لا هو في هذه ولا هو في تلك..
ووُضِعَت الرقاقتان.. وسمعتُ القائل: لقد طار نصفُ ثوابهما في ميزان أبي نصر الصياد.. فانخذلتُ انخذالا شديدا، حتى لو كُسِرتُ نصفين لكان أخفَّ علي وأهون.. بيد أني نظرتُ فرأيتُ كِفة الحسنات قد نزَلَت منزلة.. ورجحَت بعض الرجحان..
وسمعتُ الصوت: ألم يبق شيء ؟ فقيل بقي هذا...
وأنظر ما هذا الذي بقي، فإذا جوع امرأتي وولدي في ذلك اليوم !!
وإذا هو شيءٌ يوضعُ في الميزان.. وإذا هو ينزل بكفة ويرتفع بالأخرى حتى اعتدلتا بالسوية !!
وثبتَ الميزان على ذلك، فكنتُ بين الهلاكِ والنجاة..
وأسمعُ الصوت : ألم يبق شيء ؟
فقيل : بقي هذا ..
ونظرتُ فإذا دُموعُ تلك المرأة المسكينة حينَ بكت من أثَر المعروف في نفسِها.. ومن إيثاري إياها وابنها على أهلي.. ووُضِعَت غَرغَرةُ عينيها في الميزانِ ففارت..فطَمـَّت كأنها لُجـَّة.. من تحتِ اللجـَّةِ بحرٌ.. وإذا سمكة هائلة.. قد خرجت من اللجة.. وقعَ في نفسي أنها روح تلك الدموع.. فجعَلَت تعظُمُ ولا تزال تعظُمُ.. والكفة ترجح ولا تزال ترجح.. حتى سمِعتُ الصوتَ يقول: قد نجا..
وصِحتُ صيحةً انتبَهتُ لها .. فإذا أنا أقول: " لو أطعمنا أنفسنا هذا ما خرجَتِ السمكة " ))