مسائل متفرقة متعلقة بعهد عيسى عليه السلام
د. محمد أحمد المبيض
أولاً : عيسى عليه السلام يحج ويعتمر :
/- عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : {
وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُهِلَّنَّ ابْنُ مَرْيَمَ بِفَجِّ الرَّوْحَاءِ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا أَوْ لَيَثْنِيَنَّهُمَا }
شرح الغريب :
فج الروحاء : مكان بين مكة والمدينة ، وكان طريق النبي صلى الله عليه وسلم إلى بدر ومكة عام الفتح وحجة الوداع .
ليثنينهما : أي
يجمع بين الحج والعمرة ، وهو القران .
شرح :
1- الحديث فيه إشارة صريحة أن عيسى عليه السلام إنما ينزل مقرراً لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم ، لا ناسخاً لها ، وكذلك الحديث فيه إشارة إلى أن عيسى عليه السلام لا يبقى في الشام ، بل يقصد المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة وأتم التسليم ، ومنها يتوجه إلى مكة .
2- دلائل سياق قصة عيسى عليه السلام تشير إلى أن هذا الحج يكون بعد القضاء على يأجوج ومأجوج ، وقد ثبت في الصحيح أن البيت يحج إليه ويعتمر بعد يأجوج ومأجوج .
3- جاء في رواية ابن خزيمة أن عيسى عليه السلام يمكث في فج الروحاء ومنه يحج ، وسبب هذا المكث غير مصرح به ، وطبعاً لا يتصور من سيدنا عيسى عليه السلام أن يقصد فج الروحاء دون أن يمر بالمدينة المنورة التي تكون في طريقه ، بل ورد في آثار أنه يسافر إلى روضة سيد الأنبياء ويرد على سلامه يد المرسلين .
ثانياً زواج عيسى عليه السلام ، و مكان دفنه .
1- جاء في بعض الآثار أن عيسى عليه السلام يتزوج من جذام ، وجاء التصريح في الأثر بأن جذام هم قوم شعيب عليه السلام .
2- أما مكان دفن عيسى عليه السلام فقد اختلفت الآثار في ذلك ، والراجح فيها أنه يدفن في الروضة النبوية بجوار النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما .
ثالثاً : قدر بقاء عيسى عليه السلام في الأرض .
/ - عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم {
يَخْرُجُ الدَّجَّالُ فِي أُمَّتِي فَيَمْكُثُ أَرْبَعِينَ لَا أَدْرِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ أَرْبَعِينَ شَهْرًا أَوْ أَرْبَعِينَ عَامًا فَيَبْعَثُ اللَّهُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ كَأَنَّهُ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ فَيَطْلُبُهُ فَيُهْلِكُهُ ، ثُمَّ يَمْكُثُ النَّاسُ سَبْعَ سِنِينَ لَيْسَ بَيْنَ اثْنَيْنِ عَدَاوَةٌ }.
/ - عن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عن رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وفيه : {..
فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ يُتَوَفَّى فَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ. { وفي رواية أحمد }
ثُمَّ يَمْكُثَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً إِمَامًا عَدْلًا وَحَكَمًا مُقْسِطًا . }
شرح :
يلحظ من مجموع الأحاديث السابقة أن هناك تعارضاً بينها في تحديد مدة بقاء عيسى عليه السلام على الأرض بعد نزوله ، ففي رواية مسلم إشارة إلى أن المدة سبع سنين ، وفي رواية أبي داود وأحمد التصريح بمكثه أربعين سنة ، وهذا الإشكال بين المدتين أجاب عنه العماد ابن كثير بقوله : »
فهذا مع هذا مشكل ، اللهم إلا أن تحمل هذه السبع على مدة إقامته بعد نزوله ، ويكون ذلك مضافاً إلى مكثه فيها قبل رفعه إلى السماء ، وكان عمره إذ ذاك ثلاثاً وثلاثين سنة على المشهور .
وهذا جمع حسن ؛ إلا أنني أرى أنه ليس المراد هنا بالحديثين ، وذلك للأسباب التالية :
- من تأمل الحديثين يجد أنه لا تعارض ، فغاية ما في رواية مسلم أنها أشارت إلى أنه يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة ، ودلالتها الصريحة تقتصر على بيان حال الناس في مدة معينة، وهذا الكلام ليس فيه تصريح بأن هذه السبع سنوات هي كل المدة التي يقضيها عيسى عليه السلام بعد نزوله ، وإنما فهم ذلك من باب الإشارة ، وليس بصريح العبارة .
أما في رواية أبي داود فقد جاء فيها التصريح بأنه يمكث في الأرض أربعين سنة ، بل سياق الحديث يدل على أن هذه المدة كلها بعد نزوله ، و إلا فما الداعي لاستخدام حرف الفاء هنا الدال على أن هذا المكث مترتب على ما قبله وهو نزوله من السماء ، بل نلحظ في رواية أحمد أنها قالت ثم يمكث أرعين سنة إماماً عدلاً ، وهذا مما يشير صراحة إلى أن الأربعين سنة كلها تكون بعد نزوله حتماً .
إذا نحن أمام روايتان : إحداهما دلت بصريح العبارة على أن عيسى عليه السلام يمكث في الأرض أربعين سنة ، والأخرى دلت بالإشارة أو بدلالة الاقتضاء أن مكث عيسى عليه السلام هو سبع سنوات ، وإذا تعارض صريح العبارة مع دلالة الإشارة أو الاقتضاء ، رجحت دلالة العبارة عليهما ؛ لذا يرجح هنا أن بقاء عيسى عليه السلام بعد نزوله أربعون سنة .
/ - أخرج أبو داود الطيالسي في مسنده الحديث السابق وفيه : {
يَمْكُثُ عيسى فِي الْأَرْضِ بعدما ينزل أَرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ يموت، و يُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ . }
وهذا نص صريح بأن مدة الأربعين إنما تكون بعد نزوله ، وعليه يحمل المراد بالحديث السابق .
الجمع المعتبر عندي بين الأدلة :
من خلال ما سبق يمكن القول بأن قدر بقاء عيسى عليه السلام بعد نزوله هو أربعون سنة ، منها سبع سنوات ، وهي التي بعد هلاك يأجوج ومأجوج مباشرة يكون الأمن والصلاح بصورة لم تعهد حتى في عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم ،ولا يتصور وقوعها في عهد البشرية إلا في عهد نوح بعد الطوفان
وهذه اللحظات التي يسعد بها أهل الأرض ، وكأنهم في الجنة لا تدوم إلا سبع سنوات ، ثم بعد ذلك يكون النقص التدريجي في حال البشرية ، وتبدأ علاماته بتوقد العداوة من جديد بين الأفراد ، وهذا طبعاً لا يعني عدم صلاح الحال العام للأمة ، ولكن هو بداية النقص ، ولا يتنافى وقوع ذلك في عهد عيسى عليه السلام ، فطبيعة الأرض التي خُلقنا عليها ولوازم الابتلاء تقتضي مثل هذا الواقع ، و وفقاً لذلك لا يمتنع أن يتغير هذا الحال ، أو يبدأ في التغير التدريجي في عهد عيسى عليه السلام ، وقبل وفاته .
د. محمد أحمد المبيض