فتنة الدجال
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله.
وبعد:
فمن الفتن العظيمة التي حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته منها في آخر الزمان فتنة الدجال، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن عمر قال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس فأثنى على الله بما هو أهله، ثم ذكر الدجال، فقال: "إني أنذركموه، وما من نبي إلا قد أنذره قومه، ولقد أنذره نوح قومه، ولكن سأقول لكم فيه قولًا لم يقله نبي لقومه: إنه أعور وإن الله ليس بأعور"
[1].
قال الإمام السفاريني - رحمه الله -:
"وينبغي لكل عالم أن يبث أحاديث الدجال بين الأولاد والنساء والرجال، لا سيما في زماننا الذي اشرأبت فيه الفتن، وكثرت فيه المحن، واندرست فيه معالم السنن، وصارت السنن فيه كالبدع، والبدعة شرع يتبع، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم"
[2].
والدجال رجل من بني آدم، له صفات كثيرة، وردت بها الأحاديث لتعريف الناس به، وتحذيرهم من شره حتى إذا خرج عرفه المؤمنون، فلا يفتنون به. ومن صفاته أنه رجل أحمر، قصير، أفحج، جعد الرأس، ممسوح العين اليمنى، كأنها عنبة طافية، وعينه اليسرى عليها ظفرة غليظة، أي لحمة تنبت في مقدمة العين، ومكتوب بين عينيه (كافر) يقرؤها كل مسلم، كاتب أو غير كاتب، وهو عقيم لا يولد له.
ويخرج الدجال من جهة المشرق من خراسان، ويتبعه سبعون ألفًا من يهود أصبهان، قال ابن كثير.
فيكون بدء ظهوره من أصبهان، من حارة بها يقال لها اليهودية، وينصره من أهلها سبعون ألف يهودي، عليهم الأسلحة والسيجان، وهي الطيالسة الخضر، وكذلك ينصره سبعون ألفًا من التتار، وخلق من أهل خراسان، فيظهر أولًا في صورة ملك من الملوك الجبابرة، ثم يدعي النبوة، ثم يدعي الربوبية، فيتبعه على ذلك الجهلة من بني آدم، والطغام من الرعاع والعوام، ويخالفه ويرد عليه من هداه الله من عباده الصالحين، وحزب الله المتقين، فيفر الناس منه إلى الجبال، ويسيرون في الأرض، فلا يترك بلدًا إلا دخله، إلا مكة والمدينة، فقد حرم الله عليه دخولهما؛ لأن الملائكة تحرسهما
[3].
وفتنة الدجال أعظم الفتن منذ خلق الله آدم، وذلك بسبب ما يجريه الله معه من الخوارق العظيمة، التي تبهر العقول، وتحير الألباب، فقد ورد أن معه جنة ونارًا، وجنته نار، وناره جنة، وأن معه أنهار الماء، وجبال الخبز، ويأمر السماء أن تمطر فتمطر، والأرض أن تنبت فتنبت، وتتبعه كنوز الأرض. ويقطع الأرض بسرعة عظيمة كسرعة الغيث، استدبرته الريح، إلى غير ذلك من الخوارق، كل ذلك وردت به الأحاديث الصحيحة، محنة من الله واختبارًا، ليهلك المرتاب، وينجو المتيقن، روى مسلم في صحيحه من حديث حذيفة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لأنا علم بما مع الدجال منه، معه نهران يجريان، أحدهما رأي العين ماء أبيض والآخر رأي العين نار تأجج، فإما أدركهن واحد منكم فليأت النهر الذي يراه نارًا ثم ليغمس ثم ليطأطئ رأسه فيشرب فإنه ماء بارد، وإن الدجال ممسوح العين، عليها ظفرة غليظة مكتوب بين عينيه: كافر يقرؤه كل مؤمن، كاتب وغير كاتب"
[4].
وروى مسلم في صحيحه من حديث النواس بن سمعان في ذكر الدجال أن الصحابة قالوا: يا رسول الله، وما لبثه في الأرض؟ قال: أربعون يومًا يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم، قالوا: يا رسول الله! فذلك اليوم كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا، اقدروا له قدره، قالوا: و ما إسراعه في الأرض؟ قال: كالغيث استدبرته الريح فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له، فيأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت، فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت درًا وأشبغه ضروعًا و أمده خواصر، ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم، ويمر بالخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، ثم يدعو رجلًا ممتلئًا شبابًا فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض، ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه يضحك؛ فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح ابن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين، واضعًا كفيه على أجنحة ملكين، إذ طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ، فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه، فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله، ثم يأتي عيسى قوم قد عصمهم الله منه فيمسح عن وجوههم، ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة"
[5].
أما الوقاية من فتنة الدجال، فقد أرشد النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته إلى ما يعصمها من فتنة المسيح الدجال، ومن ذلك:
أولًا: التمسك بالكتاب والسنة، ومعرفة أسماء الله الحسنى وصفاته العلى التي لا يشاركه فيها أحد، فيعلم أن الدجال بشر يأكل ويشرب، وأن الله تعالى منزه عن ذلك، وأن الدجال أعور، والله ليس بأعور، وأنه لا أحد يرى ربه حتى يموت، والدجال يراه الناس عند خروجه مؤمنهم وكافرهم.
ثانيًا: التعوذ من فتنة الدجال، وخاصة في الصلاة، وقد وردت بذلك الأحاديث الصحيحة، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع، يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال"
[6].
ثالثًا: معرفة الأحاديث الواردة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- التي بين فيها صفات الدجال، وزمن خروجه، ومكانه، وطريق النجاة منه، وقد ذكرت بعض ذلك، ومن أراد التوسع فليراجع النهاية لابن كثير، أو إتحاف الجماعة للشيخ التويجري، أو أشراط الساعة للشيخ الوابل، أو غيرها.
رابعًا: حفظ آيات من سورة الكهف، فقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقراءة فواتح سورة الكهف على الدجال، وفي بعض الروايات خواتمها، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي الدرداء: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عُصم من الدجال"
[7]، وفي رواية: "من آخر الكهف"
[8].
قال النووي:
سبب ذلك ما في أولها من العجائب والآيات، فمن تدبرها لم يفتن بالدجال، وكذلك آخرها، قوله تعالى: ﴿ أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا ﴾ [الكهف: 102]
[9].
خامسًا: الفرار من الدجال، والابتعاد عنه، والأفضل سكنى مكة والمدينة، فقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الدجال لا يدخل مكة والمدينة، فينبغي للمسلم إذا خرج الدجال أن يبتعد منه، وذلك لما معه من الشبهات والخوارق العظيمة التي يجريها الله على يديه فتنة للناس، فإنه يأتيه الرجل وهو يظن في نفسه الإيمان والثبات فيتبع الدجال، روى أبو داود في سننه من حديث عمران بن حصين: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من سمع بالدجال فلينأ عنه فوالله إن الرجل ليأتيه و هو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به الشبهات، هكذا قال"
[10].
نسأل الله أن يعيذنا من فتنته وجميع المسلمين.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
منقول
[1] البخاري برقم (٦١٧٥)، ومسلم برقم (١٦٩).
[2] لوامع الأنوار البهية (2/106-107).
[3] انظر: البداية والنهاية (19/205) بتصرف.
[4] برقم (٢٩٣٤).
[5] برقم (٢٩٣٧).
[6] برقم (٥٨٨).
[7] برقم (٨٠٩).
[8] برقم (٨٠٩).
[9] شرح صحيح مسلم للنووي (2/92-93).
[10] برقم (٤٣١٩) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/814) برقم (٣٦٢٩).
رابط الموضوع:
http://www.alukah.net/sharia/0/58910/#ixzz3DhwsD06k