- إنضم
- 30 نوفمبر 2014
- المشاركات
- 4,420
- التفاعل
- 26,638
- النقاط
- 122
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم { قم } .. فقام.
وظل قائما بعدها أكثر من عشرين عاما!
لم يسترح، ولم يسكن، ولم يعش لنفسه ولا لأهله.
قام وظل قائما على دعوة الله ... يحمل على عاتقه العبء الثقيل الباهظ ولا ينوء به ... عبء الأمانة الكبرى في هذه الأرض... عبء البشرية كلها، وعبء العقيدة كلها، وعبء الكفاح والجهاد في ميادين شتى...فكان في نصب دائم لا ينقطع.. وفي صبر جميل على هذا كله، وفي قيام الليل، وفي عبادة لربه.
{يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ * قم }
إنها دعوة السماء، وصوت الكبير المتعال.. قم..
قم للأمر العظيم الذي ينتظرك، والعبء الثقيل المهيأ لك.
قم للجهد والنصب والكد والتعب.
قم فقد مضى وقت النوم والراحة..
قم فتهيأ لهذا الأمر واستعد..
وإنها لكلمة عظيمة رهيبة تنتزعه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من دفء الفراش، في البيت الهادئ والحضن الدافئ. لتدفع به في الخضم، بين الزعازع والأنواء، وبين الشد والجذب في ضمائر الناس وفي واقع الحياة سواء.
إن الذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريحاً، ولكنه يعيش صغيراً ويموت صغيراً. فأما الكبير الذي يحمل هذا العبء الكبير.. فماله والنوم؟ وماله والراحة؟ وماله والفراش الدافئ، والعيش الهادئ؟ والمتاع المريح؟!
ولقد عرف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حقيقة الأمر وقدّره، فقال لخديجة ـ رضي الله عنها ـ وهي تدعوه أن يطمئن وينام" مضى عهد النوم يا خديجة "
أجل مضى عهد النوم وما عاد منذ اليوم إلا السهر والتعب والجهاد الطويل الشاق!
{يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ} *{قُمِ الليل}
إنه الإعداد للمهمة الكبرى بوسائل الإعداد الإلهية المضمونة :قيام الليل ... أكثر... أكثر من نصف الليل ودون ثلثيه... وأقله ثلث الليل وكان هذا الإعداد للقول الثقيل الذي سينزله الله عليه..
{ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً }
هو هذا القرآن وما وراءه من التكليف.. والقرآن في مبناه ليس ثقيلاً فهو ميسر للذكر. ولكنه ثقيل في ميزان الحق، ثقيل في أثره في القلب: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله} فأنزله الله على قلب أثبت من الجبل يتلقاه..
وإن تلقي هذا الفيض من النور والمعرفة واستيعابه، لثقيل، يحتاج إلى استعداد طويل.
وإن التعامل مع الحقائق الكونية الكبرى المجردة، لثقيل، يحتاج إلى استعداد طويل.
وإن الاتصال بالملأ الأعلى وبروح الوجود وأرواح الخلائق الحية والجامدة على النحو الذي تهيأ لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لثقيل، يحتاج إلى استعداد طويل.
وإن الاستقامة على هذا الأمر بلا تردد ولا ارتياب، ولا تلفت هنا أو هناك وراء الهواتف والجواذب والمعوقات، لثقيل، يحتاج إلى استعداد طويل.
وإن قيام الليل والناس نيام، والانقطاع عن غبش الحياة اليومية وسفاسفها؛ والاتصال بالله، وتلقي فيضه ونوره، والأنس بالوحدة معه والخلوة إليه، وترتيل القرآن والكون ساكن، وكأنما هو يتنزل من الملأ الأعلى وتتجاوب به أرجاء الوجود في لحظة الترتيل بلا لفظ بشري ولا عبارة؛ واستقبال إشعاعاته وإيحاءاته وإيقاعاته وفي الليل الساجي..
إن هذا كله هو الزاد لاحتمال القول الثقيل، والعبء الباهظ والجهد المرير الذي ينتظر الرسول وينتظر من يدعو بهذه الدعوة في كل جيل! وينير القلب في الطريق الشاق الطويل، ويعصمه من وسوسة الشيطان، ومن التيه في الظلمات الحافة بهذا الطريق المنير.
{ إِنَّ نَاشِئَةَ ٱللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً }
فإن مغالبة هتاف النوم وجاذبية الفراش، بعد كد نهار، أشد وطأ وأجهد للبدن،
ولكنها إعلان لسيطرة الروح،
واستجابة لدعوة الله،وإيثار للأنس به،
ومن ثم فإنها أقوم قيلاً، لأن للذكر فيها حلاوته، وللصلاة فيها خشوعها، وللمناجاة فيها شفافيتها. وإنها لتسكب في القلب أنساً وراحة وشفافية ونوراً، قد لا يجدها في صلاة النهار وذكره.. والله الذي خلق هذا القلب يعلم مداخله وأوتاره، ويعلم ما يتسرب إليه وما يوقع عليه، وأي الأوقات يكون فيها أكثر تفتحاً واستعداداً وتهيؤاً، وأي الأسباب أعلق به وأشد تأثيراً فيه.
والله ـ سبحانه ـ وهو يعد عبده ورسوله محمداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليتلقى القول الثقيل، وينهض بالعبء الجسيم، اختار له قيام الليل، لأن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلاً. ولأن له في النهار مشاغله ونشاطه الذي يستغرق كثيراً من الطاقة والالتفات:
{ إن لك في النهار سبحاً طويلاً }
فلينقض النهار في هذا السبح والنشاط، وليخلص لربه في الليل، يقوم له بالصلاة والذكر:
{ واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلاً }
وذكر اسم الله، ليس هو مجرد ترديد هذا الإسم الكريم باللسان، على عدة المسبحة المئوية أو الألفية! إنما هو ذكر القلب الحاضر مع اللسان الذاكر، أو هو الصلاة ذاتها وقراءة القرآن فيها. والتبتل هو الانقطاع الكلي عما عدا الله، والاتجاه الكلي إليه بالعبادة والذكر، والخلوص من كل شاغل ومن كل خاطر، والحضور مع الله بكامل الحس والمشاعر.
ثم تأتي لمسة التخفيف الندية، تمسح على التعب والنصب والمشقة. ودعوة التيسير الإلهي على النبي والمؤمنين. وقد علم الله منه ومنهم خلوصهم له. وقد انتفخت أقدامهم من القيام الطويل للصلاة بقدر من القرآن كبير. وما كان الله يريد لنبيه أن يشقى بهذا القرآن وبالقيام. إنما كان يريد أن يعده للأمر العظيم الذي سيواجهه طوال ما بقي له من الحياة. هو والمجموعة القليلة من المؤمنين الذين قاموا معه.
وفي الحديث مودة وتطمين: { إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك }.. إنه رآك!
إن قيامك وصلاتك أنت وطائفة من الذين معك قبلت في ميزان الله.. إن ربك يعلم أنك وهم تجافت جنوبكم عن المضاجع؛ وتركت دفء الفراش في الليلة القارسة، ولم تسمع نداء المضاجع المغري وسمعت نداء الله..
من كتاب ( في ظلال القرآن) لسيد قطب - بتصرف-
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم { قم } .. فقام.
وظل قائما بعدها أكثر من عشرين عاما!
لم يسترح، ولم يسكن، ولم يعش لنفسه ولا لأهله.
قام وظل قائما على دعوة الله ... يحمل على عاتقه العبء الثقيل الباهظ ولا ينوء به ... عبء الأمانة الكبرى في هذه الأرض... عبء البشرية كلها، وعبء العقيدة كلها، وعبء الكفاح والجهاد في ميادين شتى...فكان في نصب دائم لا ينقطع.. وفي صبر جميل على هذا كله، وفي قيام الليل، وفي عبادة لربه.
{يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ * قم }
إنها دعوة السماء، وصوت الكبير المتعال.. قم..
قم للأمر العظيم الذي ينتظرك، والعبء الثقيل المهيأ لك.
قم للجهد والنصب والكد والتعب.
قم فقد مضى وقت النوم والراحة..
قم فتهيأ لهذا الأمر واستعد..
وإنها لكلمة عظيمة رهيبة تنتزعه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من دفء الفراش، في البيت الهادئ والحضن الدافئ. لتدفع به في الخضم، بين الزعازع والأنواء، وبين الشد والجذب في ضمائر الناس وفي واقع الحياة سواء.
إن الذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريحاً، ولكنه يعيش صغيراً ويموت صغيراً. فأما الكبير الذي يحمل هذا العبء الكبير.. فماله والنوم؟ وماله والراحة؟ وماله والفراش الدافئ، والعيش الهادئ؟ والمتاع المريح؟!
ولقد عرف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حقيقة الأمر وقدّره، فقال لخديجة ـ رضي الله عنها ـ وهي تدعوه أن يطمئن وينام" مضى عهد النوم يا خديجة "
أجل مضى عهد النوم وما عاد منذ اليوم إلا السهر والتعب والجهاد الطويل الشاق!
{يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ} *{قُمِ الليل}
إنه الإعداد للمهمة الكبرى بوسائل الإعداد الإلهية المضمونة :قيام الليل ... أكثر... أكثر من نصف الليل ودون ثلثيه... وأقله ثلث الليل وكان هذا الإعداد للقول الثقيل الذي سينزله الله عليه..
{ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً }
هو هذا القرآن وما وراءه من التكليف.. والقرآن في مبناه ليس ثقيلاً فهو ميسر للذكر. ولكنه ثقيل في ميزان الحق، ثقيل في أثره في القلب: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله} فأنزله الله على قلب أثبت من الجبل يتلقاه..
وإن تلقي هذا الفيض من النور والمعرفة واستيعابه، لثقيل، يحتاج إلى استعداد طويل.
وإن التعامل مع الحقائق الكونية الكبرى المجردة، لثقيل، يحتاج إلى استعداد طويل.
وإن الاتصال بالملأ الأعلى وبروح الوجود وأرواح الخلائق الحية والجامدة على النحو الذي تهيأ لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لثقيل، يحتاج إلى استعداد طويل.
وإن الاستقامة على هذا الأمر بلا تردد ولا ارتياب، ولا تلفت هنا أو هناك وراء الهواتف والجواذب والمعوقات، لثقيل، يحتاج إلى استعداد طويل.
وإن قيام الليل والناس نيام، والانقطاع عن غبش الحياة اليومية وسفاسفها؛ والاتصال بالله، وتلقي فيضه ونوره، والأنس بالوحدة معه والخلوة إليه، وترتيل القرآن والكون ساكن، وكأنما هو يتنزل من الملأ الأعلى وتتجاوب به أرجاء الوجود في لحظة الترتيل بلا لفظ بشري ولا عبارة؛ واستقبال إشعاعاته وإيحاءاته وإيقاعاته وفي الليل الساجي..
إن هذا كله هو الزاد لاحتمال القول الثقيل، والعبء الباهظ والجهد المرير الذي ينتظر الرسول وينتظر من يدعو بهذه الدعوة في كل جيل! وينير القلب في الطريق الشاق الطويل، ويعصمه من وسوسة الشيطان، ومن التيه في الظلمات الحافة بهذا الطريق المنير.
{ إِنَّ نَاشِئَةَ ٱللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً }
فإن مغالبة هتاف النوم وجاذبية الفراش، بعد كد نهار، أشد وطأ وأجهد للبدن،
ولكنها إعلان لسيطرة الروح،
واستجابة لدعوة الله،وإيثار للأنس به،
ومن ثم فإنها أقوم قيلاً، لأن للذكر فيها حلاوته، وللصلاة فيها خشوعها، وللمناجاة فيها شفافيتها. وإنها لتسكب في القلب أنساً وراحة وشفافية ونوراً، قد لا يجدها في صلاة النهار وذكره.. والله الذي خلق هذا القلب يعلم مداخله وأوتاره، ويعلم ما يتسرب إليه وما يوقع عليه، وأي الأوقات يكون فيها أكثر تفتحاً واستعداداً وتهيؤاً، وأي الأسباب أعلق به وأشد تأثيراً فيه.
والله ـ سبحانه ـ وهو يعد عبده ورسوله محمداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليتلقى القول الثقيل، وينهض بالعبء الجسيم، اختار له قيام الليل، لأن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلاً. ولأن له في النهار مشاغله ونشاطه الذي يستغرق كثيراً من الطاقة والالتفات:
{ إن لك في النهار سبحاً طويلاً }
فلينقض النهار في هذا السبح والنشاط، وليخلص لربه في الليل، يقوم له بالصلاة والذكر:
{ واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلاً }
وذكر اسم الله، ليس هو مجرد ترديد هذا الإسم الكريم باللسان، على عدة المسبحة المئوية أو الألفية! إنما هو ذكر القلب الحاضر مع اللسان الذاكر، أو هو الصلاة ذاتها وقراءة القرآن فيها. والتبتل هو الانقطاع الكلي عما عدا الله، والاتجاه الكلي إليه بالعبادة والذكر، والخلوص من كل شاغل ومن كل خاطر، والحضور مع الله بكامل الحس والمشاعر.
ثم تأتي لمسة التخفيف الندية، تمسح على التعب والنصب والمشقة. ودعوة التيسير الإلهي على النبي والمؤمنين. وقد علم الله منه ومنهم خلوصهم له. وقد انتفخت أقدامهم من القيام الطويل للصلاة بقدر من القرآن كبير. وما كان الله يريد لنبيه أن يشقى بهذا القرآن وبالقيام. إنما كان يريد أن يعده للأمر العظيم الذي سيواجهه طوال ما بقي له من الحياة. هو والمجموعة القليلة من المؤمنين الذين قاموا معه.
وفي الحديث مودة وتطمين: { إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك }.. إنه رآك!
إن قيامك وصلاتك أنت وطائفة من الذين معك قبلت في ميزان الله.. إن ربك يعلم أنك وهم تجافت جنوبكم عن المضاجع؛ وتركت دفء الفراش في الليلة القارسة، ولم تسمع نداء المضاجع المغري وسمعت نداء الله..
من كتاب ( في ظلال القرآن) لسيد قطب - بتصرف-