فصل في الجدال
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من جادل في خصومة بغير علم لم يزل في سخط حتى ينزع " . وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدال ثم تلا " ما ضربوه لك إلا جدلاً " . الآية. وقال صلى الله عليه وسلم " : أخوف ما أخاف عليكم زلة عالم وجدال منافق في القرآن ودنيا تقطع أعناقكم " . رواه ابن عمر. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " المراء في القرآن كفر " .
فصل في تغيير الكلام والتشدق
يكره التغيير في الكلام بالتشدق وتكلف السجع بالفصاحة بالمقدمات التي يعتادها المتفاصحون فكل ذلك من التكلف لمذموم بل ينبغي أن يقصد في مخاطبته لفظاً يفهمه جلياً ولا يثقله. روينا في كتاب الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة " . قال الترمذي: حديث حسن وروينا فيه أيضاً عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً وإن من أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون قالوا يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون.؟ قال المتكبرون " . قال الترمذي حديث حسن قال والثرثار هو كثير الكلام والمتشدق من يتطاول على الناس في الكلام ويبذو عليهم. واعلم أنه لا يدخل في الذم تحسين ألفاظ الخطب والمواعظ إذا لم يكن فيها إفراط وأغراب إلا أن المقصود منها تهييج القلوب إلى طاعة الله تعالى ولحسن اللفظ في هذا أثر ظاهر والله أعلم.
الكبيرة الحادية والستون
منع فضل الماء
قال الله تعالى: " قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً فمن يأتيكم بماء معين " قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ " . وقال عليه الصلاة والسلام: " من منع فضل مائه وفضل كلئه منعه الله فضله يوم القيامة " .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم رجل على فضل ماء بفلاة يمنعه ابن السبيل ورجل بايع إماماً لا يبايعه إلا للدنيا فإن أعطاه منها وفى له وإن لم يعطه منها لم يف له ورجل بايع رجلاً بسلعة بعد العصر فحلف له بالله لأخذتها بكذا وكذا فصدقه وهو على غير ذلك " . أخرجاه في الصحيحين وزاد البخاري: ورجل منع فضل مائه فيقول الله اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك " .
الكبيرة الثانية والستون
نقص الكيل والذرع
وما أشبه ذلك
قال الله تعالى: " ويل للمطففين " يعني الذين ينقصون الناس ويبخسون حقوقهم في الكيل والوزن. قوله " الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون " يعني يستوفون حقوقهم منها قال الزجاج: المعنى إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم وكذلك إذا اتزنوا ولم يذكر " إذا اتزنوا " لأن الكيل والوزن بهما الشراء والبيع فيما يكال ويوزن فأحدهما يدل على الآخر. " وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون " . أي ينقصون في الكيل والوزن. وقال السدي: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وبها رجل يقال له أبو جهينة له مكيالان يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر. فأنزل الله هذه الآية.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خمس بخمس " قالوا يا رسول الله وما خمس بخمس؟ قال: ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا أنزل الله بهم الطاعون " يعني كثرة الموت " ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم المطر " ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون " قال الزجاج المعنى لو ظنوا أنهم مبعوثون ما نقصوا في الكيل والوزن " ليوم عظيم " أي يوم القيامة. " يوم يقوم الناس " من قبورهم " لرب العالمين " أي لأمره ولجزائه وحسابه وهم يقومون بين يديه لفصل القضاء. وعن مالك بن دينار قال دخل علي جار لي وقد نزل به الموت وهو يقول: جبلين من نار جبلين من نار. قال قلت: ما تقول قال يا أبا يحيى كان لي مكيالان كنت أكيل بأحدهما وأكتال بالآخر وقال مالك بن دينار: فقمت فجعلت أضرب أحدهما بالآخر فقال: يا أبا يحيى كلما ضربت أحدهما بالآخر ازداد الأمر عظماً وشدة فمات في مرضه.
والمطفف هو الذي ينقص الكيل والوزن مطففاً لأنه لا يكاد يسرق إلا الشيء الطفيف وذلك ضرب من السرقة والخيانة وأكل الحرام. ثم وعد الله من فعل ذلك بويل وهو شدة العذاب وقيل واد في جهنم لو سيرت فيه جبال الدنيا لذابت من شدة حره. وقال بعض السلف: أشهد على كل كيال أو وزان بالنار لأنه لا يكاد يسلم إلا من عصم الله وقال بعضهم: دخلت على مريض وقد نزل به الموت فجعلت ألقنه الشهادة ولسانه لا ينطق بها؟ فلما أفاق قلت له يا أخي مالي ألقنك الشهادة ولسانك لا ينطق بها؟ قال يا أخي لسان الميزان على لساني يمنعني من النطق بها. فقلت له: بالله أكنت تزن ناقصاً قال: لا والله ولكن ما كنت أقف مدة لأختبر صحة ميزاني. فهذا حال من لا يعتبر صحة ميزانه فكيف حال من يزن ناقصاً. وقال نافع: كان ابن عمر يمر بالبائع فيقول: اتق الله وأوف الكيل والوزن فإن المطففين يوقفون حتى أن العرق ليلجمهم إلى أنصاف آذانهم وكذا التاجر إذا شد يده في الذراع وقت البيع وأرخى وقت الشراء وكان بعض السلف يقول: ويل لمن يبيع بحبة يعطيها ناقصة جنة عرضها السماوات والأرض وويح لمن يشتري الويل بحبة يأخذها زائدة " . فنسأل الله العفو والعافية من كل بلاء ومحنة إنه جواد كريم.
الكبيرة الثالثة والستون
الأمن من مكر الله
قال الله تعالى: " حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة " أي أخذهم عذابنا من حيث لا يشعرون قال الحسن من وسع الله عليه فلم ير أنه يمكر به فلا رأي له ومن قتر عليه فلم ير أنه ينظر إليه فلا رأي له ثم قرأ هذه الآية " حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون " وقال: مكر بالقوم ورب الكعبة أعطوا حاجتهم ثم أخذوا. وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا رأيت الله يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معصيته فإنما ذلك منه استدراج ثم قرأ. " فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون " . الإبلاس اليأس من النجاة عند ورود الهلكة وقال ابن عباس: أيسو من كل خير. وقال الزجاج: المبلس الشديد الحسرة اليائس الحزين. وفي الأثر: أنه لما مكر بإبليس وكان من الملائكة طفق جبريل وميكال يبكيان فقال: الله عز وجل لهما مالكما تبكيان قالا: يا رب ما نأمن مكرك فقال: الله تعالى: " هكذا كونا لا تأمنا مكري " وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: " يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك " . فقيل له يا رسول الله أتخاف علينا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء " .
وفي الحديث الصحيح " إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها " . وفي صحيح البخاري عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الرجل ليعمل بعمل أهل النار وإنه من أهل الجنة ويعمل الرجل بعمل أهل الجنة وإنه من أهل النار وإنما الأعمال بالخواتيم " . وقد قص الله تعالى في كتابه العزيز قصة بلعام. وأنه سلب الإيمان بعد العلم والمعرفة وكذلك برصيصا العابد مات على الكفر وروي أنه كان رجل بمصر ملتزم المسجد للأذان والصلاة وعليه بهاء العبادة وأنوار الطاعة فرقي يوماً المنارة على عادته للأذان وكانت تحت المنارة دار لنصراني ذمي فاطلع فيها فرأى ابنة صاحب الدار وكانت جميلة فافتتن بها وترك الأذان ونزل إليها فقالت له: ما شأنك وما تريد فقال: أنت أريد. قالت: لا أجيبك إلى ريبة. قال لها: أتزوجك قالت له: أنت مسلم وأبي لا يزوجني بك قال: أتنصر. قالت له: إن فعلت أفعل فتنصر ليتزوج بها وأقام معهم في الدار فلما كان في أثناء ذلك اليوم رقى إلى سطح كان في الدار فسقط فمات فلا هو فاز بدينه ولا هو تمتع بها. نعوذ بالله من مكره وسوء العاقبة وسوء الخاتمة. وعن سالم عن عبد الله قال: كان كثيراً ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحلف " لا ومقلب القلوب " . رواه البخاري ومعناه يصرفها أسرع من ممر الريح على اختلاف في القبول والرد والإرادة والكراهة وغير ذلك من الأوصاف وفي التنزيل " واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه " قال مجاهد: المعنى يحول بين المرء وعقله حتى لا يدري ما تصنع بنانه " إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب " أي عقل واختار الطبري أن يكون ذلك إخباراً من الله تعالى أنه أملك لقلوب العباد منهم وأنه يحول بينهم وبينها إن شاء حتى لا يدرك الإنسان شيئاً إلا بمشيئة الله عز وجل وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على طاعتك. فقلت: يا رسول الله إنك تكثر أن تدعو بهذا فهل تخشى قال: وما يؤمنني يا عائشة وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء إذا أراد أن يقلب قلب عبد قلبه " . فإذا كانت الهداية معروفة والاستقامة على مشيئته موقوفة والعاقبة مغيبة والإرادة غير مغالبة فلا تعجب بإيمانك وعملك وصلاتك وصومك وجميع قربك ذلك إن كان من كسبك فإنه من خلق ربك وفضله الدار عليك فمهما افتخرت بذلك كنت مفتخرا بمتاع غيرك ربما سلبه عنك فعاد قلبك من الخير أخلى من جوف العير. فكم من روضة أمست وزهرها يانع عميم أضحت وزهرها يابس هشيم إذ هبت عليها الريح العقيم كذلك العبد يمسي وقلبه بطاعة الله مشرق سليم ويصبح وهو بمعصية الله مظلم سقيم ذلك تقدير العزيز العظيم.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من جادل في خصومة بغير علم لم يزل في سخط حتى ينزع " . وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدال ثم تلا " ما ضربوه لك إلا جدلاً " . الآية. وقال صلى الله عليه وسلم " : أخوف ما أخاف عليكم زلة عالم وجدال منافق في القرآن ودنيا تقطع أعناقكم " . رواه ابن عمر. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " المراء في القرآن كفر " .
فصل في تغيير الكلام والتشدق
يكره التغيير في الكلام بالتشدق وتكلف السجع بالفصاحة بالمقدمات التي يعتادها المتفاصحون فكل ذلك من التكلف لمذموم بل ينبغي أن يقصد في مخاطبته لفظاً يفهمه جلياً ولا يثقله. روينا في كتاب الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة " . قال الترمذي: حديث حسن وروينا فيه أيضاً عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً وإن من أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون قالوا يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون.؟ قال المتكبرون " . قال الترمذي حديث حسن قال والثرثار هو كثير الكلام والمتشدق من يتطاول على الناس في الكلام ويبذو عليهم. واعلم أنه لا يدخل في الذم تحسين ألفاظ الخطب والمواعظ إذا لم يكن فيها إفراط وأغراب إلا أن المقصود منها تهييج القلوب إلى طاعة الله تعالى ولحسن اللفظ في هذا أثر ظاهر والله أعلم.
الكبيرة الحادية والستون
منع فضل الماء
قال الله تعالى: " قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً فمن يأتيكم بماء معين " قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ " . وقال عليه الصلاة والسلام: " من منع فضل مائه وفضل كلئه منعه الله فضله يوم القيامة " .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم رجل على فضل ماء بفلاة يمنعه ابن السبيل ورجل بايع إماماً لا يبايعه إلا للدنيا فإن أعطاه منها وفى له وإن لم يعطه منها لم يف له ورجل بايع رجلاً بسلعة بعد العصر فحلف له بالله لأخذتها بكذا وكذا فصدقه وهو على غير ذلك " . أخرجاه في الصحيحين وزاد البخاري: ورجل منع فضل مائه فيقول الله اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك " .
الكبيرة الثانية والستون
نقص الكيل والذرع
وما أشبه ذلك
قال الله تعالى: " ويل للمطففين " يعني الذين ينقصون الناس ويبخسون حقوقهم في الكيل والوزن. قوله " الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون " يعني يستوفون حقوقهم منها قال الزجاج: المعنى إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم وكذلك إذا اتزنوا ولم يذكر " إذا اتزنوا " لأن الكيل والوزن بهما الشراء والبيع فيما يكال ويوزن فأحدهما يدل على الآخر. " وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون " . أي ينقصون في الكيل والوزن. وقال السدي: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وبها رجل يقال له أبو جهينة له مكيالان يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر. فأنزل الله هذه الآية.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خمس بخمس " قالوا يا رسول الله وما خمس بخمس؟ قال: ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا أنزل الله بهم الطاعون " يعني كثرة الموت " ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم المطر " ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون " قال الزجاج المعنى لو ظنوا أنهم مبعوثون ما نقصوا في الكيل والوزن " ليوم عظيم " أي يوم القيامة. " يوم يقوم الناس " من قبورهم " لرب العالمين " أي لأمره ولجزائه وحسابه وهم يقومون بين يديه لفصل القضاء. وعن مالك بن دينار قال دخل علي جار لي وقد نزل به الموت وهو يقول: جبلين من نار جبلين من نار. قال قلت: ما تقول قال يا أبا يحيى كان لي مكيالان كنت أكيل بأحدهما وأكتال بالآخر وقال مالك بن دينار: فقمت فجعلت أضرب أحدهما بالآخر فقال: يا أبا يحيى كلما ضربت أحدهما بالآخر ازداد الأمر عظماً وشدة فمات في مرضه.
والمطفف هو الذي ينقص الكيل والوزن مطففاً لأنه لا يكاد يسرق إلا الشيء الطفيف وذلك ضرب من السرقة والخيانة وأكل الحرام. ثم وعد الله من فعل ذلك بويل وهو شدة العذاب وقيل واد في جهنم لو سيرت فيه جبال الدنيا لذابت من شدة حره. وقال بعض السلف: أشهد على كل كيال أو وزان بالنار لأنه لا يكاد يسلم إلا من عصم الله وقال بعضهم: دخلت على مريض وقد نزل به الموت فجعلت ألقنه الشهادة ولسانه لا ينطق بها؟ فلما أفاق قلت له يا أخي مالي ألقنك الشهادة ولسانك لا ينطق بها؟ قال يا أخي لسان الميزان على لساني يمنعني من النطق بها. فقلت له: بالله أكنت تزن ناقصاً قال: لا والله ولكن ما كنت أقف مدة لأختبر صحة ميزاني. فهذا حال من لا يعتبر صحة ميزانه فكيف حال من يزن ناقصاً. وقال نافع: كان ابن عمر يمر بالبائع فيقول: اتق الله وأوف الكيل والوزن فإن المطففين يوقفون حتى أن العرق ليلجمهم إلى أنصاف آذانهم وكذا التاجر إذا شد يده في الذراع وقت البيع وأرخى وقت الشراء وكان بعض السلف يقول: ويل لمن يبيع بحبة يعطيها ناقصة جنة عرضها السماوات والأرض وويح لمن يشتري الويل بحبة يأخذها زائدة " . فنسأل الله العفو والعافية من كل بلاء ومحنة إنه جواد كريم.
الكبيرة الثالثة والستون
الأمن من مكر الله
قال الله تعالى: " حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة " أي أخذهم عذابنا من حيث لا يشعرون قال الحسن من وسع الله عليه فلم ير أنه يمكر به فلا رأي له ومن قتر عليه فلم ير أنه ينظر إليه فلا رأي له ثم قرأ هذه الآية " حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون " وقال: مكر بالقوم ورب الكعبة أعطوا حاجتهم ثم أخذوا. وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا رأيت الله يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معصيته فإنما ذلك منه استدراج ثم قرأ. " فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون " . الإبلاس اليأس من النجاة عند ورود الهلكة وقال ابن عباس: أيسو من كل خير. وقال الزجاج: المبلس الشديد الحسرة اليائس الحزين. وفي الأثر: أنه لما مكر بإبليس وكان من الملائكة طفق جبريل وميكال يبكيان فقال: الله عز وجل لهما مالكما تبكيان قالا: يا رب ما نأمن مكرك فقال: الله تعالى: " هكذا كونا لا تأمنا مكري " وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: " يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك " . فقيل له يا رسول الله أتخاف علينا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء " .
وفي الحديث الصحيح " إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها " . وفي صحيح البخاري عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الرجل ليعمل بعمل أهل النار وإنه من أهل الجنة ويعمل الرجل بعمل أهل الجنة وإنه من أهل النار وإنما الأعمال بالخواتيم " . وقد قص الله تعالى في كتابه العزيز قصة بلعام. وأنه سلب الإيمان بعد العلم والمعرفة وكذلك برصيصا العابد مات على الكفر وروي أنه كان رجل بمصر ملتزم المسجد للأذان والصلاة وعليه بهاء العبادة وأنوار الطاعة فرقي يوماً المنارة على عادته للأذان وكانت تحت المنارة دار لنصراني ذمي فاطلع فيها فرأى ابنة صاحب الدار وكانت جميلة فافتتن بها وترك الأذان ونزل إليها فقالت له: ما شأنك وما تريد فقال: أنت أريد. قالت: لا أجيبك إلى ريبة. قال لها: أتزوجك قالت له: أنت مسلم وأبي لا يزوجني بك قال: أتنصر. قالت له: إن فعلت أفعل فتنصر ليتزوج بها وأقام معهم في الدار فلما كان في أثناء ذلك اليوم رقى إلى سطح كان في الدار فسقط فمات فلا هو فاز بدينه ولا هو تمتع بها. نعوذ بالله من مكره وسوء العاقبة وسوء الخاتمة. وعن سالم عن عبد الله قال: كان كثيراً ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحلف " لا ومقلب القلوب " . رواه البخاري ومعناه يصرفها أسرع من ممر الريح على اختلاف في القبول والرد والإرادة والكراهة وغير ذلك من الأوصاف وفي التنزيل " واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه " قال مجاهد: المعنى يحول بين المرء وعقله حتى لا يدري ما تصنع بنانه " إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب " أي عقل واختار الطبري أن يكون ذلك إخباراً من الله تعالى أنه أملك لقلوب العباد منهم وأنه يحول بينهم وبينها إن شاء حتى لا يدرك الإنسان شيئاً إلا بمشيئة الله عز وجل وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على طاعتك. فقلت: يا رسول الله إنك تكثر أن تدعو بهذا فهل تخشى قال: وما يؤمنني يا عائشة وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء إذا أراد أن يقلب قلب عبد قلبه " . فإذا كانت الهداية معروفة والاستقامة على مشيئته موقوفة والعاقبة مغيبة والإرادة غير مغالبة فلا تعجب بإيمانك وعملك وصلاتك وصومك وجميع قربك ذلك إن كان من كسبك فإنه من خلق ربك وفضله الدار عليك فمهما افتخرت بذلك كنت مفتخرا بمتاع غيرك ربما سلبه عنك فعاد قلبك من الخير أخلى من جوف العير. فكم من روضة أمست وزهرها يانع عميم أضحت وزهرها يابس هشيم إذ هبت عليها الريح العقيم كذلك العبد يمسي وقلبه بطاعة الله مشرق سليم ويصبح وهو بمعصية الله مظلم سقيم ذلك تقدير العزيز العظيم.