من مختصر زاد المعاد لابن القيم للشيخ المجدد محمد بن عبدالوهاب
....إذا عرف هذا، فالجهاد على أربع مراتب:
جهاد النفس، وجهاد الشيطان، وجهاد الكفار، وجهاد المنافقين.
فجهاد النفس وهو أيضا أربع مراتب:
أحدها: أن يجاهدها على تعلم الهدى.
الثانية: على العمل به بعد علمه.
الثالثة: على الدعوة إليه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله.
الرابعة: على الصبر على مشاق الدعوة، ويتحمل ذلك كله لله، فإذا استكمل هذه الأربع صار من الربانيين، فإن السلف مجمعون على أن العالم لا يكون ربانيا حتى يعرف الحق ويعمل به ويعلمه، ويدعو إليه.
...إلى أن قال والمرتبة الثالثة: جهاد الكفار والمنافقين، وهو أربع مراتب، بالقلب واللسان والمال والنفس،
وأكمل الخلق عند الله من أكمل مراتب الجهاد كلها؛ ولهذا كان أكمل الخلق عند الله وأكرمهم على الله خاتم أنبيائه محمد، فإنه كمل مراتبه، وجاهد في الله حق جهاده، وشرع فيه من حين بعثه الله إلى أن توفاه، فإنه لما أنزل عليه:: (
ياأيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر ) [ المدثر : 1 - 4 ] شمر عن ساق الدعوة ، وقام في ذات الله أتم قيام ، ودعا إلى الله ليلا ونهارا ، وسرا وجهارا ، ولما نزل عليه : (
فاصدع بما تؤمر ) [ الحجر : 94 ] فصدع بأمر الله لا تأخذه فيه لومة لائم ، فدعا إلى الله الصغير والكبير والحر والعبد والذكر والأنثى والأحمر والأسود والجن والإنس .
ولما صدع بأمر الله وصرح لقومه بالدعوة ، وناداهم بسب آلهتهم ، [ ص: 12 ] وعيب دينهم ، اشتد أذاهم له ، ولمن استجاب له من أصحابه ، ونالوه ونالوهم بأنواع الأذى ، وهذه سنة الله عز وجل في خلقه كما قال تعالى : (
ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك ) وقال : (
وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن ) [ الأنعام : 112 ] وقال : (
كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون )
فعزى سبحانه نبيه بذلك ، وأن له أسوة بمن تقدمه من المرسلين ، وعزى أتباعه بقوله : (
أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ) [ البقرة : 214 ] .
وقوله : (
الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين أم
حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين.....
والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين ) [ العنكبوت : 1 - 11 ] .
فليتأمل العبد سياق هذه الآيات، وما تضمنته من العبر وكنوز الحكم،
فإن الناس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين:
إما أن يقول أحدهم: آمنا، وإما أن لا يقولوا ذلك، بل يستمر على السيئات، فمن قال: آمنا، فتنه ربه، والفتنة: الابتلاء والاختبار؛ ليبين الصادق من الكاذب،
ومن لم يقل: آمنا، فلا يحسب أنه يفوت الله ويسبقه،
فمن آمن بالرسل، عاداه أعداؤهم، وآذوه، فابتلي بما يؤلمه، ومن لم يطعهم عوقب في الدنيا والآخرة. فلا بد من حصول الألم لكل نفس، لكن المؤمن يحصل له الألم ابتداء، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة، والمعرض تحصل له اللذة ابتداء، ثم يصير إلى الألم الدائم، وسئل الشافعي رحمه الله: أيما أفضل للرجل، أن يمكن أو يبتلى؟ فقال: لا يمكن حتى يبتلى.
والله سبحانه ابتلى أولي العزم من رسله، فلما صبروا مكنهم، فلا يظن أحد أنه يخلص من الألم ألبتة، وإنما يتفاوت أهل الآلام في العقول، فأعقلهم من باع ألما عظيما مستمرا بألم منقطع يسير، وأسفههم من باع الألم المنقطع اليسير بالألم المستمر العظيم.
فإن قيل: كيف يختار العاقل هذا؟ قيل: الحامل له على هذا النقد والنسيئة، والنفس موكلة بالعاجل (
كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة ) (
إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا ) ،
وهذا يحصل لكل أحد، فإن الإنسان لا بد له أن يعيش مع الناس، ولهم إرادات يطلبون منه موافقتهم عليها، فإن لم يفعل آذوه وعذبوه، وإن وافقهم حصل له الأذى والعذاب، تارة منهم، وتارة من غيرهم، كمن عنده دين وتقى حل بين قوم فجار ظلمة لا يتمكنون من فجورهم وظلمهم إلا بموافقة لهم، أو سكوته عنهم، فإن فعل سلم من شرهم في الابتداء، ثم يتسلطون عليه بالإهانة والأذى أضعاف ما كان يخافه ابتداء لو أنكر عليهم، وإن سلم منهم، فلا بد أن يهان على يد غيرهم.
فالحزم كل الحزم: الأخذ بما قالته عائشة رضي الله عنها لمعاوية: من أرضى الله بسخط الناس، كفاه الله مؤنة الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله، لم يغنوا عنه من الله شيئا. ومن تأمل أحوال العالم، رأى هذا كثيرا، فيمن يعين الرؤساء وأهل البدع هربا من عقوبتهم، فمن وقاه الله شر نفسه، امتنع من الموافقة على المحرم، وصبر على عداوتهم، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة، كما كانت للرسل لمن ابتلي من العلماء وغيرهم.
ولما كان الألم لا مخلص منه ألبتة، عزى الله سبحانه من اختار الألم اليسير المنقطع على الألم العظيم المستمر:
(
من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم ) فضرب لمدة هذا الألم أجلا ، لا بد أن يأتي ، وهو يوم لقائه ، فيلتذ العبد أعظم اللذة بما تحمل من الألم من أجله وفي مرضاته ، وتكون لذته وسروره وابتهاجه بقدر ما تحمل من الألم في الله ولله ، وأكد هذا العزاء والتسلية برجاء لقائه ليحمل العبد اشتياقه إلى لقاء ربه ووليه على تحمل مشقة الألم العاجل
.
فالشوق يحمل المشتاق على الجد في السير إلى محبوبه ، ويقرب عليه الطريق ، ويطوي له البعيد ، ويهون عليه الآلام والمشاق ، وهو من أعظم نعمة أنعم الله بها على عبده ، ولكن لهذه النعمة أقوال وأعمال هما السبب الذي تنال به ، والله سبحانه سميع لتلك الأقوال ، عليم بتلك الأفعال ، وهو عليم بمن يصلح لهذه النعمة ويشكرها ويعرف قدرها ويحب المنعم عليه ، فتصلح عنده هذه النعمة ، ويصلح بها كما قال تعالى : (
وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين ) ، فإذا فاتت العبد نعمة من نعم ربه فليقرأ على نفسه : (
أليس الله بأعلم بالشاكرين ) .
ثم عزاهم تعالى بعزاء آخر، وهو إنما جهادهم فيه إنما هو لأنفسهم، وأنه غني عن العالمين، فمصلحة هذا الجهاد ترجع إليهم لا له سبحانه، ثم أخبر أنه يدخلهم بجهادهم وإيمانهم في زمرة الصالحين، ثم أخبر عن حال الداخل في الإيمان بلا بصيرة، وأنه يجعل فتنة الناس - أي أذاهم له ونيلهم إياه بالألم الذي لا بد منه - كعذاب الله الذي فر منه المؤمنون بالإيمان،
. والمقصود أن الحكمة اقتضت أنه سبحانه لا بد أن يمتحن النفوس، فيظهر طيبها من خبيثها، إذ النفس في الأصل جاهلة ظالمة، وقد حصل لها بذلك من الخبث ما يحتاج خروجه إلى التصفية، فإن خرج في هذه الدار، وإلا ففي كير جهنم، فإذا نقي العبد أذن له في دخول الجنة.