- إنضم
- 30 نوفمبر 2014
- المشاركات
- 4,420
- التفاعل
- 26,638
- النقاط
- 122
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله الملك الحق المبين ، والصلاة والسلام على الهادي المبعوث رحمة للعالمين ... سيدنا محمد الأمين وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وعلى صحابته الغر الميامين المحجلين ، وعلى التابعين بإحسان إلى يوم المعاد والدين
أما بعد ...
فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-أنه مر بسوق المدينة فوقف عليها فقال:" يا أهل السوق ما أعجزكم؟ "، قالوا: وما ذاك يا أبا هريرة؟ قال: " ذاك ميراث رسول الله يُقسَّم وأنتم ها هنا! لا تذهبون فتأخذون نصيبكم منه! "، قالوا: وأين هو؟ قال: " في المسجد "، فخرجوا سراعا إلى المسجد ووقف أبو هريرة لهم حتى رجعوا، فقال لهم: "ما لكم؟ "،قالوا: يا أبا هريرة فقد أتينا المسجد فدخلنا فلم نر فيه شيئا يُقسَّم! فقال لهم أبو هريرة-رضي الله عنه-: " أما رأيتم في المسجد أحدا؟ " قالوا: بلى رأينا قوما يصلون، وقوما يقرأون القرآن، وقوما يتذاكرون الحلال والحرام ، فقال لهم أبو هريرة-رضي الله عنه-: "ويحكم فذاك ميراث محمد صلى الله عليه وسلم".
إخواني وأخواتي أعضاء المنتدى الكرام
لقد فقه سلفنا الصالح أهمية السنة، وأدركوا عظيم قدرها فكانوا يبذلون النفس والنفيس والغالي والرخيص في سبيل تحصيلها ولو كان ذلك كلمات معدودات، والأمثلة والصور والنماذج في هذا المجال كثيرة سطرها التاريخ بمداد من نور فبقيت منارات تشرأب إليها الأعناق ويقتدي بها السائرون.
يقول الشيخ محمد حسين يعقوب :- " ومن تمثل سير سلفنا الصالح ، ونظر في معاناتهم في طلب العلم هانت عليه كل شدة ، واحتقر نفسه أمامهم ، فقد كابدوا من الصعاب ما يفوق التخيل ، وتركوا البلاد والأولاد وهجروا اللذات والشهوات ، وجابوا مشارق الأرض ومغاربها سعيا وراء حديث واحد ، أو لقاء شيخ أو معرفة مسألة ، وأنت اليوم تجزع من قراءة ساعة ، وتتكاسل عن سبر صفحات قليلة ، وتتوافر لك سبل المعرفة فما تمد لها يدا ، فحالك تالله حال عجيبة ، فانظر إلى هؤلاء الأفذاذ كيف طلبوا العلم عساك تنتفع بذلك . "
واليوم ... باتت سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ميسره بين أيدينا بفضل التطور التكنولوجي ، ولا تحتاج لارتحال وسفر سعيا في تحصيلها ، فيكفينا فقط أن نقرأ في كتب الحديث والسنه سواء المطبوع منها أو المحفوظ في الوسائط المعلوماتيه .
وعليه ... فقد وجدنا من المفيد أن نضع بين أيديكم ما تيسر جمعه من آثار ندلل بها على حرص السلف الصالح على طلب سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ومكابدة المشقات في سبيل ذلك ، حتى نشحذ بها الهمم ولتكون وقودا للاندفاع والاقبال – وبكل نشاط وحماس - على سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قراءة وتدبرا وتعلما وعملا .
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل
***
نماذج من حرص الصحابه – رضي الله عنهم – على طلب العلم والحديث
عن عطاء بن أبي رباح رضي الله عنه قال: خرج أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه إلى عقبة بن عامر رضي الله عنه يسأله عن حديث سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبق أحد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم غيره وغير عقبة، فلما قدم إلى منزل مسلمة بن مخلد الأنصاري - وهو أمير مصر - فأخبره فعجل عليه فخرج إليه فعانقه ثم قال له ما جاء بك يا أبا أيوب؟ فقال: حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق أحد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم غيري وغير عقبة فابعث من يدلني على منزله، قال: فبعث معه من يدله على منزل عقبة، فأخبر عقبة فعجل فخرج إليه فعانقه، فقال ما جاء بك يا أبا أيوب؟ فقال: حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق أحد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم غيري وغيرك في ستر المؤمن، قال عقبة: نعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من ستر مؤمنا في الدنيا على خزية ستره الله يوم القيامة، فقال له أبو أيوب: صدقت، ثم انصرف أبو أيوب إلى راحلته فركبها راجعا إلى المدينة، فما أدركته جائزة مسلمة بن مخلد إلا بعريش مصر .
وهذا جابر بن عبد الله رضي الله عنه رحل مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد .
فقد روى البخاري في الأدب المفرد أن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: بلغني عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث في القصاص لم أسمعه منه فابتعت بعيرا فشددت رحلي ثم سرت إليه شهرا حتى قدمت مصر أو قال الشام فأتيت عبد الله بن أنيس فقلت: حديث بلغني عنك تحدث به سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أسمعه - في القصاص - خشيت أن أموت قبل أن أسمعه، فقال عبد الله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يوم يحشر العباد أو قال الناس حفاة عراة غرلا بهما ليس معهم شيء ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك أنا الديان لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عليه مظلمة حتى أقصه منه ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار ولأحد من أهل الجنة عنده مظلمة حتى أقصه منه حتى اللطمة، قال: قلنا:كيف وإنما نأتي الله عز وجل عراة حفاة غرلا بهما؟ قال: بالحسنات والسيئات
وهذا عقبة بن الحارث سافر من مكة إلى المدينة ليلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عن مسألة رضاع وقعت له .
فعن عقبة بن الحارث أنه تزوج ابنة لأبي إهاب بن عزيز، فأتته امرأة فقالت: إني قد أرضعت عقبة والتي تزوج . فقال لها عقبة: ما أعلم أنك أرضعتني، ولا أخبرتني، فركب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فسأله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كيف وقد قيل ؟! " ففارقها عقبة، ونكحت زوجا غيره .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم - وأنا شاب - قلت لشاب من الأنصار: يافلان! هلم فلنسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولنتعلم منهم فإنهم كثير، قال: العجب لك يا بن عباس أترى الناس يحتاجون إليك وفي الأرض من ترى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فتركت ذلك وأقبلت على المسألة وتتبع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كنت لآتي الرجل في الحديث يبلغني أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجده قائلا، فأتوسد ردائي على بابه تسفي الريح على وجهي حتى يخرج، فإذا خرج قال: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لك؟ فأقول: بلغني حديث عنك أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحببت أن أسمعه منك، قال فيقول: فهلا بعثت إلي حتى أتيك، فأقول: أنا أحق أن آتيك، فكان الرجل بعد ذلك يراني وقد ذهب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واحتاج الناس إلي فيقول كنت أعقل مني .
***
نماذج من طلب التابعين والسلف الصالح للعلم والحديث
يقول سعيد بن المسيب: إن كنت لأسير ثلاثا في الحديث الواحد .
ويقول الإمام جرير بن حازم :- "جلست إلى الحسن البصري سبع سنين لم أخرم منها يوما واحدًا، أصوم وأذهب إليه "
وهذا الإمام عبد الرحمن ابن أبي حاتم الرازي–رحمه الله- صاحب الجرح والتعديل - يقول: " كنا في مصر سبعة أشهر لم نأكل فيها مرقة،كل نهارنا مقسم لمجالس الشيوخ وبالليل النسخ والمقابلة،فأتينا يوما أنا ورفيق لي شيخا، فقالوا: هو عليل،فرأينا في طريقنا سمكة أعجبتنا فاشتريناها فلما صرنا إلى البيت حضر وقت مجلس فلم يمكنا إصلاح هذه السمكة ومضينا إلى المجلس، فلم نزل حتى أتى على السمكة ثلاثة أيام وكادت أن تتغير فأكلناها نيئة، لم يكن لنا فراغ أن نشوي السمك. ثم قال: " إن العلم لا يستطاع براحة الجسد "
وقال عامر الشعبي: لو أن رجلا سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن ليسمع كلمة حكمة ما رأيت أن سفره ضاع .
وقيل للإمام أحمد : أيرحلُ الرجل في طلب العلم ؟ فقال : بلى والله شديدا ، لقد كان علقمة بن قيس النخعي ، والأسود بن يزيد النخعي ، وهما من أهل الكوفة بالعراق يبلغهما الحديث عن عمر فلا يقنعهما حتى يخرجا إليه إلى المدينة المنورة فيسمعانه منه .
وعن كثير بن قيس قال : كنت جالسا عند أبي الدرداء في مسجد دمشق فأتاه رجل فقال له: يا أبا الدرداء ! أتيتك من المدينة مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم لحديث بلغني أنك تحدث به عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فما جاء بك تجارة؟ قال: لا، قال: ولا جاء بك غيره؟ قال: لا، قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة تضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن طالب العلم يستغفر له من في السماء والأرض حتى الحيتان في الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر .
ومنه ما صنعه الإمام العظيم الحافظ أبو عبد الرحمن بقي بن مخلد الأندلسي رحمه الله ... فقد نقل بعض العلماء من كتاب حفيده قوله : سمعت أبي يقول : رحل أبي من مكة إلى بغداد ، وكان رجلا بغيته ملاقاة أحمد بن حنبل .
قال : فلما قربت بلغتني المحنة ، وأنه ممنوع ، فاغتممت غما شديدا ، فاحتللت بغداد ، واكتريت بيًتا في فندق ، ثم أتيت الجامع ، وأنا أريد أن أجلس إلى الناس ، فدفعت إلى حلقة نبيلة ، فإذا برجل يتكلم في الرجال ، فقيل لي : هذا يحيى بن معين ، ففرجت لي فرجة ، فقمت إليه ، فقلت : يا أبا زكريا - رحمك الله - رجل غريب ، ناء عن وطنه ، أردت السؤال فلا تستخفني . فقال : قل . فسألت عن بعض من لقيته فبعضا زكى ، وبعضا جرح ، فسألته عن هشام بن عمار ، فقال لي أبو الوليد : صاحب صلاة دمشق ثقة وفوق الثقة ، لو كان تحت ردائه كبر أو متقلدا كبرا ما ضره شيئًا لخيره وفضله .
فصاح أصحاب الحلقة : يكفيك - رحمك الله - غيرك له سؤال . فقلت وأنا واقف على قدم : اكشف عن رجل واحد أحمد بن حنبل . فنظر إلي كالمتعجب فقال لي : ومثلنا نحن نكشف عن أحمد ، ذاك إمام المسلمين وخيرهم وفاضلهم .
فخرجت أستدل على منزل أحمد بن حنبل ، فدللت عليه ، فقرعت بابه فخرج إلي فقلت : يا أبا عبد الله ، رجل غريب ، نائي الدار ، هذا أول دخولي هذا البلد ، وأنا طالب حديث ، ومقيد سنة ، ولم تكن رحلتي إلا إليك .
فقال : ادُخل الأسطوان - يعني به الممر إلى داخل الدار - ولا يقع عليك عين . فدخلت فقال لي : وأين موضعك ؟! قلت : المغرب الأقصى . فقال لي : إفريقية ؟ قلت : أبعد من إفريقية ، أجوز من بلدي البحر إلى إفريقية بلدي الأندلس .
قال : إن موضعك لبعيد ، وما كان شيء أحب إلي من أن أحسن عون مثلك على مطلبه ، غير أنِّي في حيني هذا ممتحن بما لعله قد بلغك .
فقلت : بلى قد بلغني ، وأنا قريب من بلدك ، مقبل نحوك . فقلت له : يا أبا عبد الله ، هذا أول دخولي ، وأنا مجهول العين عندكم ، فان أذنت لي أن آتي كل يوم زي السؤال ، فأقول عند الباب ما يقولونه ، فتخرج إلى هذا الموضع ، فلو لم تحدثني في كل يوم إلا بحديث واحد لكان لي فيه كفاية . فقال لي : نعم على شرط أن لا تظهر في الحِلق ، ولا عند المحدثين . فقلت : لك شرطك .
فكنت آخذ عصا بيدي ، وألف رأسي بخرقة مدنسة ، وأجعل كاغدي - أي ورقي ودواتي في كمي - ، ثم آتي بابه ، فأصيح : الأجر - رحمك الله - والسؤال هناك كذلك ، فيخرج إلي ويغلق باب الدار ، ويحدثني بالحديثين والثلاثة والأكثر ، فالتزمت ذلك حتى مات الممتحن له ، وولي بعده من كان على مذهب السنة ، فظهر أحمد ، وعلت إمامته ، وكانت تضرب إليه آباط الإبل ، فكان يعرف لي حق صبري ، فكنت إذا أتيت حلقته فسح لي ، ويقص على أصحاب الحديث قصتي معه ، فكان يناولني الحديث مناولة ، ويقرؤه علي ، وأقرؤه عليه.
فهذا خبر من أعجب ما يمكن أن نقرأه ، فهذا العالم الأندلسي رحل من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق على قدميه ليلقى الإمام أحمد ، فلما وجده محبوسا ممنوعا عن الناس تلطف وتحيل حتى لقيه ، فأخذ العلم عنه ، وحفظ له الإمام أحمد صبره في الطلب وقربه منه .
ومن الأخبار العجيبه في طلب العلم – والتي نتعلم منها أن العلم لا يتوقف عند سن معين وأنه يُطلب من المهد إلى اللحد - ما ذكره أصحاب التراجم والسير في ( مقدمة الجرح والتعديل ) عن أبا حاتم محمد بن إدريس الرازي يقول : أحصيت ما مشيت على قدمي زيادة على ألف فرسخ - الفرسخ نحو خمسة كيلو مترات فتأملوا إخواني وأخواتي كم قطع هذا الرجل من المسافات مشيا على الأقدام- ، لم أزل أحصي حتى لما زاد على ألف فرسخ تركته ، وأما ما سرت أنا من الكوفة إلى بغداد فما لا أحصي كم مرة ، ومن مكة إلى المدينة مرات كثيرة ، وخرجت من البحر من قرب مدينة سلا وذلك في المغرب الأقصى إلى مصر ماشيا ، ومن مصر إلى الرملة ماشيا ، ومن الرملة إلى بيت المقدس ، ومن الرملة إلى عسقلان ، ومن الرملة إلى طبرية ، ومن طبرية إلى دمشق ، ومن دمشق إلى حمص ، ومن حمص إلى إنطاكية ، ومن إنطاكية إلى طرسوس ، ثم رجعت من طرسوس إلى حمص ، وكان بقِي علي شيء من حديث أبي اليمان فسمعته ، ثم خرجت من حمص إلى بيسان ، ومن بيسان إلى الرقة ، ومن الرقة ركبت الفرات إلى بغداد ، وخرجت قبل خروجي إلى الشام من واسط إلى النيل ، ومن النيل إلى الكوفي ، كل ذلك ماشيا ، هذا سفري الأول وأنا ابن عشرين سنة ، أجول سبع سنين ، وخرجت المرة الثانية وكان سني في هذه الرحلة ٤٧ سنة
وروي أصحاب التراجم والسير أن الحافظ ابن منده بدأ الرحلة في طلب العلم وهو ابن عشرين سنة ، ورجع وهو ابن خمس وستين سنة ، ولما عاد إلى وطنه تزوج وهو ابن ٦٥ سنة !! ، ورزق الأولاد ، وحدث بالكثير . وقد قال رحمه الله : طفت الشرق والغرب مرتين .
فهذا غيض من فيض ، وقليل من كثير تضمنته كتب الآثار من اجتهاد سلفنا الصالح في طلب العلم والحديث وتحصيله ، فقد كان أكبر همهم وجل مطلبهم هو تقفي أثر وسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، وأخذ الحظ والنصيب الوافر من ميراث الأنبياء الذين لم يُورثوا ديناراً ولا درهماً .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله الملك الحق المبين ، والصلاة والسلام على الهادي المبعوث رحمة للعالمين ... سيدنا محمد الأمين وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وعلى صحابته الغر الميامين المحجلين ، وعلى التابعين بإحسان إلى يوم المعاد والدين
أما بعد ...
فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-أنه مر بسوق المدينة فوقف عليها فقال:" يا أهل السوق ما أعجزكم؟ "، قالوا: وما ذاك يا أبا هريرة؟ قال: " ذاك ميراث رسول الله يُقسَّم وأنتم ها هنا! لا تذهبون فتأخذون نصيبكم منه! "، قالوا: وأين هو؟ قال: " في المسجد "، فخرجوا سراعا إلى المسجد ووقف أبو هريرة لهم حتى رجعوا، فقال لهم: "ما لكم؟ "،قالوا: يا أبا هريرة فقد أتينا المسجد فدخلنا فلم نر فيه شيئا يُقسَّم! فقال لهم أبو هريرة-رضي الله عنه-: " أما رأيتم في المسجد أحدا؟ " قالوا: بلى رأينا قوما يصلون، وقوما يقرأون القرآن، وقوما يتذاكرون الحلال والحرام ، فقال لهم أبو هريرة-رضي الله عنه-: "ويحكم فذاك ميراث محمد صلى الله عليه وسلم".
إخواني وأخواتي أعضاء المنتدى الكرام
لقد فقه سلفنا الصالح أهمية السنة، وأدركوا عظيم قدرها فكانوا يبذلون النفس والنفيس والغالي والرخيص في سبيل تحصيلها ولو كان ذلك كلمات معدودات، والأمثلة والصور والنماذج في هذا المجال كثيرة سطرها التاريخ بمداد من نور فبقيت منارات تشرأب إليها الأعناق ويقتدي بها السائرون.
يقول الشيخ محمد حسين يعقوب :- " ومن تمثل سير سلفنا الصالح ، ونظر في معاناتهم في طلب العلم هانت عليه كل شدة ، واحتقر نفسه أمامهم ، فقد كابدوا من الصعاب ما يفوق التخيل ، وتركوا البلاد والأولاد وهجروا اللذات والشهوات ، وجابوا مشارق الأرض ومغاربها سعيا وراء حديث واحد ، أو لقاء شيخ أو معرفة مسألة ، وأنت اليوم تجزع من قراءة ساعة ، وتتكاسل عن سبر صفحات قليلة ، وتتوافر لك سبل المعرفة فما تمد لها يدا ، فحالك تالله حال عجيبة ، فانظر إلى هؤلاء الأفذاذ كيف طلبوا العلم عساك تنتفع بذلك . "
واليوم ... باتت سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ميسره بين أيدينا بفضل التطور التكنولوجي ، ولا تحتاج لارتحال وسفر سعيا في تحصيلها ، فيكفينا فقط أن نقرأ في كتب الحديث والسنه سواء المطبوع منها أو المحفوظ في الوسائط المعلوماتيه .
وعليه ... فقد وجدنا من المفيد أن نضع بين أيديكم ما تيسر جمعه من آثار ندلل بها على حرص السلف الصالح على طلب سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ومكابدة المشقات في سبيل ذلك ، حتى نشحذ بها الهمم ولتكون وقودا للاندفاع والاقبال – وبكل نشاط وحماس - على سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قراءة وتدبرا وتعلما وعملا .
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل
***
نماذج من حرص الصحابه – رضي الله عنهم – على طلب العلم والحديث
عن عطاء بن أبي رباح رضي الله عنه قال: خرج أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه إلى عقبة بن عامر رضي الله عنه يسأله عن حديث سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبق أحد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم غيره وغير عقبة، فلما قدم إلى منزل مسلمة بن مخلد الأنصاري - وهو أمير مصر - فأخبره فعجل عليه فخرج إليه فعانقه ثم قال له ما جاء بك يا أبا أيوب؟ فقال: حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق أحد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم غيري وغير عقبة فابعث من يدلني على منزله، قال: فبعث معه من يدله على منزل عقبة، فأخبر عقبة فعجل فخرج إليه فعانقه، فقال ما جاء بك يا أبا أيوب؟ فقال: حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق أحد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم غيري وغيرك في ستر المؤمن، قال عقبة: نعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من ستر مؤمنا في الدنيا على خزية ستره الله يوم القيامة، فقال له أبو أيوب: صدقت، ثم انصرف أبو أيوب إلى راحلته فركبها راجعا إلى المدينة، فما أدركته جائزة مسلمة بن مخلد إلا بعريش مصر .
وهذا جابر بن عبد الله رضي الله عنه رحل مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد .
فقد روى البخاري في الأدب المفرد أن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: بلغني عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث في القصاص لم أسمعه منه فابتعت بعيرا فشددت رحلي ثم سرت إليه شهرا حتى قدمت مصر أو قال الشام فأتيت عبد الله بن أنيس فقلت: حديث بلغني عنك تحدث به سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أسمعه - في القصاص - خشيت أن أموت قبل أن أسمعه، فقال عبد الله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يوم يحشر العباد أو قال الناس حفاة عراة غرلا بهما ليس معهم شيء ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك أنا الديان لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عليه مظلمة حتى أقصه منه ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار ولأحد من أهل الجنة عنده مظلمة حتى أقصه منه حتى اللطمة، قال: قلنا:كيف وإنما نأتي الله عز وجل عراة حفاة غرلا بهما؟ قال: بالحسنات والسيئات
وهذا عقبة بن الحارث سافر من مكة إلى المدينة ليلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عن مسألة رضاع وقعت له .
فعن عقبة بن الحارث أنه تزوج ابنة لأبي إهاب بن عزيز، فأتته امرأة فقالت: إني قد أرضعت عقبة والتي تزوج . فقال لها عقبة: ما أعلم أنك أرضعتني، ولا أخبرتني، فركب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فسأله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كيف وقد قيل ؟! " ففارقها عقبة، ونكحت زوجا غيره .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم - وأنا شاب - قلت لشاب من الأنصار: يافلان! هلم فلنسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولنتعلم منهم فإنهم كثير، قال: العجب لك يا بن عباس أترى الناس يحتاجون إليك وفي الأرض من ترى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فتركت ذلك وأقبلت على المسألة وتتبع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كنت لآتي الرجل في الحديث يبلغني أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجده قائلا، فأتوسد ردائي على بابه تسفي الريح على وجهي حتى يخرج، فإذا خرج قال: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لك؟ فأقول: بلغني حديث عنك أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحببت أن أسمعه منك، قال فيقول: فهلا بعثت إلي حتى أتيك، فأقول: أنا أحق أن آتيك، فكان الرجل بعد ذلك يراني وقد ذهب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واحتاج الناس إلي فيقول كنت أعقل مني .
***
نماذج من طلب التابعين والسلف الصالح للعلم والحديث
يقول سعيد بن المسيب: إن كنت لأسير ثلاثا في الحديث الواحد .
ويقول الإمام جرير بن حازم :- "جلست إلى الحسن البصري سبع سنين لم أخرم منها يوما واحدًا، أصوم وأذهب إليه "
وهذا الإمام عبد الرحمن ابن أبي حاتم الرازي–رحمه الله- صاحب الجرح والتعديل - يقول: " كنا في مصر سبعة أشهر لم نأكل فيها مرقة،كل نهارنا مقسم لمجالس الشيوخ وبالليل النسخ والمقابلة،فأتينا يوما أنا ورفيق لي شيخا، فقالوا: هو عليل،فرأينا في طريقنا سمكة أعجبتنا فاشتريناها فلما صرنا إلى البيت حضر وقت مجلس فلم يمكنا إصلاح هذه السمكة ومضينا إلى المجلس، فلم نزل حتى أتى على السمكة ثلاثة أيام وكادت أن تتغير فأكلناها نيئة، لم يكن لنا فراغ أن نشوي السمك. ثم قال: " إن العلم لا يستطاع براحة الجسد "
وقال عامر الشعبي: لو أن رجلا سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن ليسمع كلمة حكمة ما رأيت أن سفره ضاع .
وقيل للإمام أحمد : أيرحلُ الرجل في طلب العلم ؟ فقال : بلى والله شديدا ، لقد كان علقمة بن قيس النخعي ، والأسود بن يزيد النخعي ، وهما من أهل الكوفة بالعراق يبلغهما الحديث عن عمر فلا يقنعهما حتى يخرجا إليه إلى المدينة المنورة فيسمعانه منه .
وعن كثير بن قيس قال : كنت جالسا عند أبي الدرداء في مسجد دمشق فأتاه رجل فقال له: يا أبا الدرداء ! أتيتك من المدينة مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم لحديث بلغني أنك تحدث به عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فما جاء بك تجارة؟ قال: لا، قال: ولا جاء بك غيره؟ قال: لا، قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة تضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن طالب العلم يستغفر له من في السماء والأرض حتى الحيتان في الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر .
ومنه ما صنعه الإمام العظيم الحافظ أبو عبد الرحمن بقي بن مخلد الأندلسي رحمه الله ... فقد نقل بعض العلماء من كتاب حفيده قوله : سمعت أبي يقول : رحل أبي من مكة إلى بغداد ، وكان رجلا بغيته ملاقاة أحمد بن حنبل .
قال : فلما قربت بلغتني المحنة ، وأنه ممنوع ، فاغتممت غما شديدا ، فاحتللت بغداد ، واكتريت بيًتا في فندق ، ثم أتيت الجامع ، وأنا أريد أن أجلس إلى الناس ، فدفعت إلى حلقة نبيلة ، فإذا برجل يتكلم في الرجال ، فقيل لي : هذا يحيى بن معين ، ففرجت لي فرجة ، فقمت إليه ، فقلت : يا أبا زكريا - رحمك الله - رجل غريب ، ناء عن وطنه ، أردت السؤال فلا تستخفني . فقال : قل . فسألت عن بعض من لقيته فبعضا زكى ، وبعضا جرح ، فسألته عن هشام بن عمار ، فقال لي أبو الوليد : صاحب صلاة دمشق ثقة وفوق الثقة ، لو كان تحت ردائه كبر أو متقلدا كبرا ما ضره شيئًا لخيره وفضله .
فصاح أصحاب الحلقة : يكفيك - رحمك الله - غيرك له سؤال . فقلت وأنا واقف على قدم : اكشف عن رجل واحد أحمد بن حنبل . فنظر إلي كالمتعجب فقال لي : ومثلنا نحن نكشف عن أحمد ، ذاك إمام المسلمين وخيرهم وفاضلهم .
فخرجت أستدل على منزل أحمد بن حنبل ، فدللت عليه ، فقرعت بابه فخرج إلي فقلت : يا أبا عبد الله ، رجل غريب ، نائي الدار ، هذا أول دخولي هذا البلد ، وأنا طالب حديث ، ومقيد سنة ، ولم تكن رحلتي إلا إليك .
فقال : ادُخل الأسطوان - يعني به الممر إلى داخل الدار - ولا يقع عليك عين . فدخلت فقال لي : وأين موضعك ؟! قلت : المغرب الأقصى . فقال لي : إفريقية ؟ قلت : أبعد من إفريقية ، أجوز من بلدي البحر إلى إفريقية بلدي الأندلس .
قال : إن موضعك لبعيد ، وما كان شيء أحب إلي من أن أحسن عون مثلك على مطلبه ، غير أنِّي في حيني هذا ممتحن بما لعله قد بلغك .
فقلت : بلى قد بلغني ، وأنا قريب من بلدك ، مقبل نحوك . فقلت له : يا أبا عبد الله ، هذا أول دخولي ، وأنا مجهول العين عندكم ، فان أذنت لي أن آتي كل يوم زي السؤال ، فأقول عند الباب ما يقولونه ، فتخرج إلى هذا الموضع ، فلو لم تحدثني في كل يوم إلا بحديث واحد لكان لي فيه كفاية . فقال لي : نعم على شرط أن لا تظهر في الحِلق ، ولا عند المحدثين . فقلت : لك شرطك .
فكنت آخذ عصا بيدي ، وألف رأسي بخرقة مدنسة ، وأجعل كاغدي - أي ورقي ودواتي في كمي - ، ثم آتي بابه ، فأصيح : الأجر - رحمك الله - والسؤال هناك كذلك ، فيخرج إلي ويغلق باب الدار ، ويحدثني بالحديثين والثلاثة والأكثر ، فالتزمت ذلك حتى مات الممتحن له ، وولي بعده من كان على مذهب السنة ، فظهر أحمد ، وعلت إمامته ، وكانت تضرب إليه آباط الإبل ، فكان يعرف لي حق صبري ، فكنت إذا أتيت حلقته فسح لي ، ويقص على أصحاب الحديث قصتي معه ، فكان يناولني الحديث مناولة ، ويقرؤه علي ، وأقرؤه عليه.
فهذا خبر من أعجب ما يمكن أن نقرأه ، فهذا العالم الأندلسي رحل من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق على قدميه ليلقى الإمام أحمد ، فلما وجده محبوسا ممنوعا عن الناس تلطف وتحيل حتى لقيه ، فأخذ العلم عنه ، وحفظ له الإمام أحمد صبره في الطلب وقربه منه .
ومن الأخبار العجيبه في طلب العلم – والتي نتعلم منها أن العلم لا يتوقف عند سن معين وأنه يُطلب من المهد إلى اللحد - ما ذكره أصحاب التراجم والسير في ( مقدمة الجرح والتعديل ) عن أبا حاتم محمد بن إدريس الرازي يقول : أحصيت ما مشيت على قدمي زيادة على ألف فرسخ - الفرسخ نحو خمسة كيلو مترات فتأملوا إخواني وأخواتي كم قطع هذا الرجل من المسافات مشيا على الأقدام- ، لم أزل أحصي حتى لما زاد على ألف فرسخ تركته ، وأما ما سرت أنا من الكوفة إلى بغداد فما لا أحصي كم مرة ، ومن مكة إلى المدينة مرات كثيرة ، وخرجت من البحر من قرب مدينة سلا وذلك في المغرب الأقصى إلى مصر ماشيا ، ومن مصر إلى الرملة ماشيا ، ومن الرملة إلى بيت المقدس ، ومن الرملة إلى عسقلان ، ومن الرملة إلى طبرية ، ومن طبرية إلى دمشق ، ومن دمشق إلى حمص ، ومن حمص إلى إنطاكية ، ومن إنطاكية إلى طرسوس ، ثم رجعت من طرسوس إلى حمص ، وكان بقِي علي شيء من حديث أبي اليمان فسمعته ، ثم خرجت من حمص إلى بيسان ، ومن بيسان إلى الرقة ، ومن الرقة ركبت الفرات إلى بغداد ، وخرجت قبل خروجي إلى الشام من واسط إلى النيل ، ومن النيل إلى الكوفي ، كل ذلك ماشيا ، هذا سفري الأول وأنا ابن عشرين سنة ، أجول سبع سنين ، وخرجت المرة الثانية وكان سني في هذه الرحلة ٤٧ سنة
وروي أصحاب التراجم والسير أن الحافظ ابن منده بدأ الرحلة في طلب العلم وهو ابن عشرين سنة ، ورجع وهو ابن خمس وستين سنة ، ولما عاد إلى وطنه تزوج وهو ابن ٦٥ سنة !! ، ورزق الأولاد ، وحدث بالكثير . وقد قال رحمه الله : طفت الشرق والغرب مرتين .
فهذا غيض من فيض ، وقليل من كثير تضمنته كتب الآثار من اجتهاد سلفنا الصالح في طلب العلم والحديث وتحصيله ، فقد كان أكبر همهم وجل مطلبهم هو تقفي أثر وسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، وأخذ الحظ والنصيب الوافر من ميراث الأنبياء الذين لم يُورثوا ديناراً ولا درهماً .