- إنضم
- 6 يناير 2015
- المشاركات
- 2,335
- التفاعل
- 5,405
- النقاط
- 122
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وصل اللهم على نبينا محمد واله وصحبه الكرام وسلم تسليما كثيرا وبعد
أنزل الله سبحانه في كتابه العظيم سورتين تبينان للناس كيف يكون الحج إلى بيته المعظم ، هما : سورة الحج وسورة البقرة ، أما سورة البقرة وهي الثانية نزولا فهي سورة (أوامر ونواهي) ولذا جاء التأكيد فيها على الأقوال والأفعال وأحكام الإتمام والمنهيات والكفارات ، وبدأت بزمن الحج (الأهلة) وختمت بذكر الله في الأيام المعدودات ، وتأتي الإشارة فيها للتقوى تنبيهً على هذا الأصل العظيم .
وأما سورة الحج فهي (سورة قلبية) فآيات الحج فيها غالبها عن حج القلب (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى منكم) ، (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) ، (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) .
فمن جمع بينهما في حجته جمع الخير كله ، ومن انتقص منهما أو من أحدهما اُنتقص من حجه بقدر نقصه ، وإنَّ مما تظاهرت النصوص في الدلالة عليه أن كمال أو نقص (حج القلب) أعظمُ أثراً في قبول الحج أو رده من أثر (أعمال الجوارح) مع الضرورة لهما جميعاً ، ولكن (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) ، فليس الكمال في تعظيم القلب لهذه الشعائر كالكمال في سنن الطواف والسعي والرمي ونحوها ، ولا الخدش في لباس التوحيد كالخدش في لباس الإحرام ، ولا تطهير القلب من الرياء والعجب والكبر كتطهير اللسان من العبث وتطهير البدن من التفث والثياب من الوسخ . وكلاهما دين قد تعبدنا الله به لكن الأول أصل والثاني فرع له ، وبينهما تلازم ظاهر إلا في حال صلاح الظاهر مع فساد الباطن .
وما أحسن قول القائل في شأن المسير إلى الله :
قطع المسافة بالقلوب إليه لا بالسير فوق مقاعد الركبان
مقصود السُّورة :
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عن مقصودها : تضمنت منازل المسير إلى الله ، بحيث لا يكون منزلة ولا قاطع يقطع عنها .
وكلام هذا الإمام يحققه أن السورة سميت باسم الحج ، والحج في اللغة : هو القصد إلى معظم ، وأعظم مقصود هو الله العظيم سبحانه ، والناس كلهم سائرون إلى هذا العظيم في جلاله وجماله ورحمته وعذابه جل في علاه .
فهي علامات ومنارات للسائر ، في أي طريق يسلك ؟ ثم كيف يسير ؟ وما هو زاده ؟ ومن أي شيء يحاذر؟
وأول هذه العلامات في السورة :
هو الأدب في أسلوب الخطاب حتى مع الكافر ، فإن النداء بـ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) إنما يراد به المشركون كما قاله ابن عباس ، وهذا ظاهر فعلى كثرة النداءات في القرآن لم يأت الخطاب بـ (يا أيها المشركون) ولا (يا أيها الذين أشركوا) في القرآن كله ، بل جاءت آيتان فقط (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ) و (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ، بينما تكرر الندء بـ (يا أيها الذين آمنوا) في تسعة وثمانين موضعاً ، وتكرر أيضا النداء بـ (يا أهل الكتاب) و(يا بني إسرائيل) وغيرها كثير ، والقرآن خطاب للمشركين كما هو لغيرهم ولا يوجد نداء لهم إلا (يا أيها الناس) فكان كما قاله ترجمان القرآن .
وقد عَددتُ في الوجه الأول فقط من هذه السورة العظيمة عشر علامات لمن أراد المسير إلى ربه وهي : التلطف في الخطاب .. والقوة فيه .. والعناية بالقلب أولا .. واستعمال التخويف بالآخرة .. والتفصيل في هذا .. والتحذير من أهل الذكاء وأصحاب الألسنة إذا مارَوا وموهوا وزخرفوا الباطل بما أُوتوا من دهاء وخِلاَبَةٍ فهولاء أتباع الأكابر مِن (كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ) .. وضرورة اليقين الماحي لأدنى ريب بالبعث .. والاستدلال بالرؤية البصرية للرؤية القلبية .. ودلائل قوة الجبار في خلقه .. وضعف الإنسان في خلقته .
وامض في هذا ستجد عجباً من هدايات السورة ودلالاتها .
· الحاج مع سورة الحج :
الحاج قاصد للبيت العتيق ولابد له في مسيره هذا من علامات تهديه حتى يصل إلى مقصوده ، فجاءت علامات ودلالات القرآن للحاج ظاهرة تلوح في السورة ، فأقولها لكل حاج ـ صادحاً بها ـ : عجباً لحاج يقصد الحج ولم يتدبر سورة الحج !!
فهي تجمع بين مسير الحاج إلى البيت العتيق بقدميه وبين مسيره إليه بقلبه ، تجمع بين تلبية القلب وتلبية اللسان ، تجمع بين رميه الجمار بيديه ورميه بقلبه ، بين نحره الهدي بيديه وبين نحره مع حضور قلبه .
فإن سألت : كيف نحج بقلوبنا مع جوارحنا ؟
فالجواب ـ والعلم عند الله ـ أن رحى آيات هذه السورة العجيبة يدور على (التعظيم) ، فمن أراد ذلك فعليه أن يُدخل في قلبه تعظيم ما عظم الله فيها بكثرة النظر والتدبر في آياتها وبما أمرت به أن يُعظّم ، ويجتهد في قلبه أعظم الاجتهاد لتحقيق ذلك فيه ، ويصبر ويصابر ويقطع الساعات والليالي ويطيل الفكرة ويذرف الدمعة في الخلوة حتى يُفتح له ، وهذه أمور قلبية ليس لها إلا طول المجاهدة .
والسورة تؤكد على تعظيم أمور ثلاثة :
الأول : تعظيم الله رباً ومعبوداً ، والخلوصُ إليه والثقة الكاملة به بحيث لا يشوب ذلك نقصٌ ولا كَدَر بأي وجه من الوجوه ، وتأمل هذه الآيات فيها :
- (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ)
- (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
- (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ)
- (حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ)
- (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)
الثاني : تعظيم اليوم الآخر ، وآيات سورة الحج تهز القلوب والجوانح هزّاً شديداً :
- فمطلعها (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) .
و(المرضعة) بالتاء هي التي حالها أنها الآن ترضع صغيرها ، فهي ترمي به في وقت مَصِّه لثديها ، ويا سبحان الله شجرةٌ لن تُحاسب وبعوضةٌ لن تُسأل ونملةٌ لن توزن وهرةٌ لن تعرض على جنة أو نار ؛ فلأي شيء أجهضت هذه جميعاً حملها (وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا ) ؟!
- وفي وسط السورة (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ) (21) .
الثالث : تعظيم شعائر الله وأركان دينه العظام كالصلاة والزكاة والحج والجهاد ونحوها .
وقد تكررت الآيات في هذه السورة العظيمة على وجوب تعظيم شعائر الحج :
- (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (32)
- (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) (30)
وبيان أن هذا التعظيم أصله في القلب :
- (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) (37)
- (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) (34)
ومن أعظم ما يقطع مسيرَ الإنسان إلى الرحمن ، ومسيرَ الملبين إلى البيت العظيم ، قلةُ تعظيم شعائر الله ، ولذا أبان الله في هذه السورةِ العظيمة وكرّر وأكدَ وجوبَ تعظيم المسجد الحرام وتعظيمِ البيت والحجر ، والركنِ والمقام ، والصفا والمروة ، ومنى وعرفةَ والمزدلفة ، والجمراتِ والهدي التي لا تراق دماؤها إلا لله ، ولا يعني تعظيمها أن يُتبرك بها أو يُظن أنها تنفعُ أو تضر من دون الله ، ولكن ليَعلم الناس أن هذا بيتُ الله أضافه إليه تشريفاً وتعظيماً له .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وصل اللهم على نبينا محمد واله وصحبه الكرام وسلم تسليما كثيرا وبعد
أنزل الله سبحانه في كتابه العظيم سورتين تبينان للناس كيف يكون الحج إلى بيته المعظم ، هما : سورة الحج وسورة البقرة ، أما سورة البقرة وهي الثانية نزولا فهي سورة (أوامر ونواهي) ولذا جاء التأكيد فيها على الأقوال والأفعال وأحكام الإتمام والمنهيات والكفارات ، وبدأت بزمن الحج (الأهلة) وختمت بذكر الله في الأيام المعدودات ، وتأتي الإشارة فيها للتقوى تنبيهً على هذا الأصل العظيم .
وأما سورة الحج فهي (سورة قلبية) فآيات الحج فيها غالبها عن حج القلب (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى منكم) ، (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) ، (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) .
فمن جمع بينهما في حجته جمع الخير كله ، ومن انتقص منهما أو من أحدهما اُنتقص من حجه بقدر نقصه ، وإنَّ مما تظاهرت النصوص في الدلالة عليه أن كمال أو نقص (حج القلب) أعظمُ أثراً في قبول الحج أو رده من أثر (أعمال الجوارح) مع الضرورة لهما جميعاً ، ولكن (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) ، فليس الكمال في تعظيم القلب لهذه الشعائر كالكمال في سنن الطواف والسعي والرمي ونحوها ، ولا الخدش في لباس التوحيد كالخدش في لباس الإحرام ، ولا تطهير القلب من الرياء والعجب والكبر كتطهير اللسان من العبث وتطهير البدن من التفث والثياب من الوسخ . وكلاهما دين قد تعبدنا الله به لكن الأول أصل والثاني فرع له ، وبينهما تلازم ظاهر إلا في حال صلاح الظاهر مع فساد الباطن .
وما أحسن قول القائل في شأن المسير إلى الله :
قطع المسافة بالقلوب إليه لا بالسير فوق مقاعد الركبان
مقصود السُّورة :
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عن مقصودها : تضمنت منازل المسير إلى الله ، بحيث لا يكون منزلة ولا قاطع يقطع عنها .
وكلام هذا الإمام يحققه أن السورة سميت باسم الحج ، والحج في اللغة : هو القصد إلى معظم ، وأعظم مقصود هو الله العظيم سبحانه ، والناس كلهم سائرون إلى هذا العظيم في جلاله وجماله ورحمته وعذابه جل في علاه .
فهي علامات ومنارات للسائر ، في أي طريق يسلك ؟ ثم كيف يسير ؟ وما هو زاده ؟ ومن أي شيء يحاذر؟
وأول هذه العلامات في السورة :
هو الأدب في أسلوب الخطاب حتى مع الكافر ، فإن النداء بـ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) إنما يراد به المشركون كما قاله ابن عباس ، وهذا ظاهر فعلى كثرة النداءات في القرآن لم يأت الخطاب بـ (يا أيها المشركون) ولا (يا أيها الذين أشركوا) في القرآن كله ، بل جاءت آيتان فقط (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ) و (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ، بينما تكرر الندء بـ (يا أيها الذين آمنوا) في تسعة وثمانين موضعاً ، وتكرر أيضا النداء بـ (يا أهل الكتاب) و(يا بني إسرائيل) وغيرها كثير ، والقرآن خطاب للمشركين كما هو لغيرهم ولا يوجد نداء لهم إلا (يا أيها الناس) فكان كما قاله ترجمان القرآن .
وقد عَددتُ في الوجه الأول فقط من هذه السورة العظيمة عشر علامات لمن أراد المسير إلى ربه وهي : التلطف في الخطاب .. والقوة فيه .. والعناية بالقلب أولا .. واستعمال التخويف بالآخرة .. والتفصيل في هذا .. والتحذير من أهل الذكاء وأصحاب الألسنة إذا مارَوا وموهوا وزخرفوا الباطل بما أُوتوا من دهاء وخِلاَبَةٍ فهولاء أتباع الأكابر مِن (كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ) .. وضرورة اليقين الماحي لأدنى ريب بالبعث .. والاستدلال بالرؤية البصرية للرؤية القلبية .. ودلائل قوة الجبار في خلقه .. وضعف الإنسان في خلقته .
وامض في هذا ستجد عجباً من هدايات السورة ودلالاتها .
· الحاج مع سورة الحج :
الحاج قاصد للبيت العتيق ولابد له في مسيره هذا من علامات تهديه حتى يصل إلى مقصوده ، فجاءت علامات ودلالات القرآن للحاج ظاهرة تلوح في السورة ، فأقولها لكل حاج ـ صادحاً بها ـ : عجباً لحاج يقصد الحج ولم يتدبر سورة الحج !!
فهي تجمع بين مسير الحاج إلى البيت العتيق بقدميه وبين مسيره إليه بقلبه ، تجمع بين تلبية القلب وتلبية اللسان ، تجمع بين رميه الجمار بيديه ورميه بقلبه ، بين نحره الهدي بيديه وبين نحره مع حضور قلبه .
فإن سألت : كيف نحج بقلوبنا مع جوارحنا ؟
فالجواب ـ والعلم عند الله ـ أن رحى آيات هذه السورة العجيبة يدور على (التعظيم) ، فمن أراد ذلك فعليه أن يُدخل في قلبه تعظيم ما عظم الله فيها بكثرة النظر والتدبر في آياتها وبما أمرت به أن يُعظّم ، ويجتهد في قلبه أعظم الاجتهاد لتحقيق ذلك فيه ، ويصبر ويصابر ويقطع الساعات والليالي ويطيل الفكرة ويذرف الدمعة في الخلوة حتى يُفتح له ، وهذه أمور قلبية ليس لها إلا طول المجاهدة .
والسورة تؤكد على تعظيم أمور ثلاثة :
الأول : تعظيم الله رباً ومعبوداً ، والخلوصُ إليه والثقة الكاملة به بحيث لا يشوب ذلك نقصٌ ولا كَدَر بأي وجه من الوجوه ، وتأمل هذه الآيات فيها :
- (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ)
- (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
- (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ)
- (حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ)
- (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)
الثاني : تعظيم اليوم الآخر ، وآيات سورة الحج تهز القلوب والجوانح هزّاً شديداً :
- فمطلعها (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) .
و(المرضعة) بالتاء هي التي حالها أنها الآن ترضع صغيرها ، فهي ترمي به في وقت مَصِّه لثديها ، ويا سبحان الله شجرةٌ لن تُحاسب وبعوضةٌ لن تُسأل ونملةٌ لن توزن وهرةٌ لن تعرض على جنة أو نار ؛ فلأي شيء أجهضت هذه جميعاً حملها (وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا ) ؟!
- وفي وسط السورة (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ) (21) .
الثالث : تعظيم شعائر الله وأركان دينه العظام كالصلاة والزكاة والحج والجهاد ونحوها .
وقد تكررت الآيات في هذه السورة العظيمة على وجوب تعظيم شعائر الحج :
- (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (32)
- (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) (30)
وبيان أن هذا التعظيم أصله في القلب :
- (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) (37)
- (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) (34)
ومن أعظم ما يقطع مسيرَ الإنسان إلى الرحمن ، ومسيرَ الملبين إلى البيت العظيم ، قلةُ تعظيم شعائر الله ، ولذا أبان الله في هذه السورةِ العظيمة وكرّر وأكدَ وجوبَ تعظيم المسجد الحرام وتعظيمِ البيت والحجر ، والركنِ والمقام ، والصفا والمروة ، ومنى وعرفةَ والمزدلفة ، والجمراتِ والهدي التي لا تراق دماؤها إلا لله ، ولا يعني تعظيمها أن يُتبرك بها أو يُظن أنها تنفعُ أو تضر من دون الله ، ولكن ليَعلم الناس أن هذا بيتُ الله أضافه إليه تشريفاً وتعظيماً له .