- إن كان حيا فكن على ثقة تامة بأنه سيكون سلاحا في وجه كل حيوان غاصب مختبئ في شكل هياكل بشرية من أمثالك أو لعلك دون تلك المرتبة.
لم يستطع إيتان تمالك أعصابه فرفع يده عاليا وصفع بكفه وجهي بقوة حتى تفطرت وجنتاي وتشققت شفتاي وسال منهما الدم فدمعت عيناي من الألم ولكني كنت مصرّة على الظهور في هيأة الفتاة القوية التي لا تخشى شيئا فتماسكت ورسمت ابتسامة مصطنعة ثم أردفت: “ سحقا لك. يالك من كائن ضعيف تحجب ضعفك وتغطي عجزك بالعنف. أنت حقا مثير للشفقة ” رفع حينها يده ليلطمني ثانية لولا أن طرق الباب فأنزل يده وسمح للطارق بالدخول فتقدم أحد العساكر وقال: “ احترامي سيدي ، العميد روبن يطلبك في مكتبه حالا رفقة الطبيبة ” فأومأ إليه جاكوب بأنه سيفعل وأمسك يداي المكبلتان ومضى بي إلى هناك قائلا:
-كثيرون هم من دخلوا بلسان وقح كهذا الذي عندك وسرعان ما أصبحوا قططا بل هررة ناعمة وستصبحين منهم عن قريب.
- ولو كان جميع من دخل هنا قد تغير وصار حملا وديعا فتأكد بأني سأكون ذلك الثور الغاضب الثائر بمجرد رؤية وجوه كذاك الذي عندك.
دخلنا مكتب روبن فقام من مكانه ورحب بجاكوب قائلا :
روبن: -أبديت نجاحك ككل مرة. تهانينا جاكوب
جاكوب: - شكرا سيّدي العميد.
روبن: - ولكني أعيب عليك معاملتك لطبيبتنا الفاتنة والمجتهدة بهذه القسوة! أطلق يديها فنحن لا نعامل أطباءنا بهذه الطريقة وخاصة الجميلات من أمثالها
- انزع يدك عن وجهي ولا تقل أني طبيبتكم حتى لا تثير شفقتي مجدّدا
روبن: - لا..لا..لا،هكذا سأغضب منك فاحذري غضب الهادئ. أنت من اليوم صرت طبيبة الجيش الإسرائيلي.
- ههههه، غريب حقّا. لا يظهر على محياك كل هذا الغباء. ألا تسمع؟ أخبرتك بأني لن أفعل هل أعيدها مرة أخرى؟
روبن: - الأمر لم يعد خيارا لك عزيزتي. ستكونين مجبورة على فعل هذا والليلة ستقومين بعملية للوائنا بنيامين.
- أظنّ أن روح الدعابة عالية لديك، كيف صوّر لك خيالك أني سأنقذ شخصا لو كان بيدي سلاح لقتلته في اليوم ألف مرة، تريد مني إنقاذ ذلك الوحش يا إلاهي هذا حقا مضحك ! بت في حيرة من أمركم كيف صورت لكم أنفسكم وألهمكم خيالكم أني سأعالج ذلك النذل الذي ارتكب المجازر وانتهك الحرمات أتعرف كم شخـ...
احمر وجه روبن فجأة وتصاعد الدم في عروقه ثم مسك وجهي وراح يضغط على فكّي والشرر يتطاير من عينيه ثم جلجل: ” اعرفي حدودك جيدا ولا تتمادي ” عاد إلى مكتبه فرفع السماعة وأجرى مكالمة ولم تمر ثواني حتى حضر الجنود رفقة الأطفال الأسرى الذين لمحتهم في السجن منذ قليل واصطف الأطفال وانتصب الجنود أمامهم رافعين أسلحتهم في وجوههم وبعض الصغار يبكون ويستغيثون من شدة الذعر حتى تعرّقوا وارتجفت أطرافهم. صغار لا يتجاوز عمر أكبرهم العاشرة. أحسست بالاختناق وضيق التّنفس وكأن شراييني قد تصلبت وتملّكني الدوار واختلّ توازني وثقل رأسي حتّى أصبحت لا أستطيع حمله وشعرت بالحزن حتى تحجّرت دموعي في مقلتي وانكفأت إلى الدّاخل فقد فهمت الرهان الذي وضحه روبن صادحا: ” اختاري أما أن تجري العملية الليلة وتنقذي حياته وإمّا سيموت هؤلاء نصب عينيك الآن ” انتابني صمت عميق، شرود وذهول غريبين فلا استغاثة أطفال في عمر الزهور تسمح بتجاهلهم ولا ضميري وكرامتي يبيحان لي مداواة شيطان من الإنس. وتشابكت الأفكار في رأسي فقيّدتني وكبّلتني وشلّت حركتي وجعلتني سجينة حيرة أخذت تنهش عقلي.
وأشار روبن إلى جنوده فاستعدوا ووضعوا أصابعهم على الزناد فصمدت وتحاملت على نفسي وفككت قيودي ولم أجد أخف ضررا من القبول فلما سمع ذلك مني أمرهم بإعادة الأطفال إلى أماكنهم وأنا أقبع مع نفسي أحاورها في حزن ثم نادى روبن مساعده أبراهام ليأخذني إلى المستشفى العسكري المتصل بالمعسكر حتى أستطلع حالة السقيم وقال أنه سيلحق بنا بعد قليل. وجرني كلبه الوغد إلى الخارج ـ وقد لفحت قلبي هبّة من انفعال شديد فاستولت عليّ حالة مريرة ملوّثة بالغضب وغمرني جوّ مشبع بالحقد.
جاكوب: - سيدي كيف تثق بأن بإمكانها مداواته ماذا إن لم تستطع؟
روبن: - كي يعيش الزعيم فلا بدّ أن يخضع لعملية لإصلاح تمزق في شريان الأورطي للقلب وللأسف تعتبر هذه الجراحة من أكثر العمليات المستصعبة والدقيقة للغاية ولم يتمكن من إجرائها إلى الآن سوى اثنان. الأول هو الدكتور بيتر فردريك أستاذ تلك الفتاة في أمريكا والذي توفي منذ أشهر.
والثاني هي هذه اللئيمة الوقحة. جاكوب تأكد أنها ستكون مكسبا كبيرا لنا وأظن أننا بنو إسرائيل وشعب الله المختار أحق ببارعة مثلها. وستكون أنت المسؤول عنها منذ اليوم .
جاكوب: - حاضر سيدي عن إذنك
روبن: - جاكوب! بمجرد أن يستفيق الجنرال بنيامين سيعلي من شأنك كثيرا نظرا لأنك صهره أوّلا والسبب في إنقاذه ثانيا. سيكون شفاؤه لصالحك.
خرج جاكوب ولم يعره اهتماما. دخل مكتبه فتفاجأ بوجود امرأة بيضاء البشرة شقراء الشعر جالسة في انتظاره
جاكوب: - ميريكا، ما الذي جاء بك إلى هنا؟
ميريكا: - اشتقت إليك كثيرا حبيبي.
جاكوب: - ميريكا أنا مشغول الآن، أجلي البوح بمشاعرك لوقت لاحق.
ميريكا: - بتّ تتهرب كعادتك! على كل لا تهتم لم آتي من أجلك. جئت لأتأكد من الخبر. أحقا عثرت على طبيبة مناسبة لتقوم بجراحة أبي؟
جاكوب: - أجل. سيخضع للعملية بعد قليل.
ميريكا: - إذن فلنذهب إلى هناك سويا. أريد أن أحضر العملية.
في غزة بات جميع أصدقائي على أثر تلك الفاجعة، فقدوا أربعة منهم فجأة وفي آن واحد. اثنان منها استشهدا واثنان لا خبر عنهما ولا يعرفون لهما سبيلا. وما عمق آلامهم وضاعف أحزانهم إلا حالة الفلسطينيين. هناك، حيث عمّ المشفى بالجثث والجرحى مع تواصل القصف حتى عجز الأطباء على كثرتهم على تغطية حجم الضحايا. كان الوضع صعبا في القطاع مع تشديد الحصار لدرجة انقطاع الكهرباء واللجوء إلى المولدات الكهربائية. منعوا عنهم الأسلحة والأدوية وحتى المواد الغذائية فلا وجد الأهالي ما يطعمهم من جوع ولا ما يؤمّنهم من خوف حتى أصبحت حياتهم أشبه بالجحيم. نار تلك الجحيم كانت تشتعل في فؤادي وأنا أقف أمام المساعدين أشرح لهم ما سنقوم بفعله من تخدير المريض وتحضير للعملية. ثم البدء بالجراحة و كيف تتمثل في فتحة في الصدر حيث يتم قص عظمة القص منتصف الصدر طوليا ويتم فتحها بجهاز معين يفتح الصدر طوليا حوالي 15 سم إلى 20 سم ويوسع القفص الصدري بجهاز معين لنتمكن من الوصول إلى غشاء التامور المغلف للقلب حيث يتم فتحة للوصول إلى القلب ويظهر أمامنا القلب والشرايين الخارجة منه ويتم معاينة المجال الجراحي ثم تبدأ مرحلة وصل الدورة الدموية الاصطناعية حيث يتم تحويل دم المريض كاملا" إلى جهاز معين أسمه القلب والرئة الاصطناعية أين يتم هناك أكسدة الدم وضخه للمريض أثناء توقف القلب. بعد وصل الدورة الدموية الاصطناعية والبدء باستخدامها وفصل الدورة الدموية الطبيعية. يتم توقيف القلب عن العمل بواسطة محلول معين وظيفته شل عضلة القلب وحمايتها أثناء توقف القلب لأجراء العملية المطلوبة لإصلاح التمزق في الشريان الأورطي للقلب .
كان سقف الغرفة بلوريا بطريقة تسمح للراغب في المشاهدة أن يرى كل ما يحدث نصب عينيه من الأعلى وقد صممت خصّيصا لجراحات القادة والشخصيات المفصلية في إسرائيل. رفعت رأسي إلى الأعلى فرأيتهم قد اجتمعوا جميعا ليشهدوا إنقاذ زعيمهم وإبادة طبّي وإفناء إنسانيتي. أحضروا لي سمّاعة أُذُن تربطني بجاكوب الذي كان من جملة الجالسين صحبة زوجته ميريكا. والذي أشار لي أن أبدأ مهددا إياّي بأن العملية إذا فشلت فحياة الأطفال ستنقضي على الفور. ووقفت بارتباك شديد وجسد مرتعش ثم باشرت العملية فخيم الهدوء على الغرفة ولم يُسمع فيها غير كلماتي المتتالية: ” مشرط... مقبض.. مقص..ملقط... ” وتواصلت الجراحة مطوّلة شاقة. وفجأة انقطعت عن العمل فبهت الجميع ومكثوا ينتظرون مني أن أكمل فلم أفعل. حينها صدح جاكوب : لم توقفت؟ ما بك؟
- لن أكمل العملية إلا إذا أخبرتني ماذا حل بسليم فورا.
- ياسمين واصلي عملك وإلا مات الأطفال أمامك الآن.
- إن قتلتموهم فزعيمكم أيضا ميت لا محالة .
- ياسمين لا تتحديني وأكملي الجراحة وإلا ستخسرين.
- وزعيمكم المفدّى سيخسر أيضا، سيفقد حياته للأبد. لن أكمل قبل أن تخبرني بمكانه.
توتر جاكوب كثيرا وشعر أنه تحاصر من كل الجهات فقال:
- حسنا أكملي وسأخبرك فور الانتهاء من الجراحة.
- ما الذي يضمن لي صدق حقير مثلك؟
- ياسمين أنا أعدك بهذا أمام الجميع هيا واصلي العملية.
- سأصدقك هذه المرة مع أني أعلم أنك من الذين إذا وعدوا أخلفوا وإذا اؤتمنوا خانوا وإذا حدثوا كذبوا.
روبن: - هل تريد هذه اللعينة أن نفصل رأسها عن جسدها فتكون عبرة لغيرها أم ماذا؟
جاكوب: - ستكمل الآن. كن هادئا سيدي.
استأنفت العملية حتى فرغت منها وتركت لأطبائهم إخاطة الجرح ومضيت. نزعت ثياب العملية والكمامة عن وجهي وغسلت يداي ثم صعدت إلى الأعلى فسألوا لمَ لمْ يستفق بعد فأكّدت لهم أنه بحاجة إلى سويعات من الراحة كي يستفيق ولكن العملية قد نجحت. فرحوا جميعا وتهافتوا بهذا الخبر أو تظاهروا بذلك إن صحّ التعبير وتهلل وجه ميريكا سرورا وانشراحا وتسارعت إلى أحضان جاكوب لترتمي فيها، ثم نزلت إلى الأسفل لتطمئن على والدها وغادر بقية القادة بين مسرور لحياة بنيامين وتعيس لخيبة أمله في الظفر بمكانة هذا الأخير . ولم يبق في الأعلى غير جاكوب وأنا. نظرت إليه فترجم نظراتي وذهب إلى طرف القاعة يجري اتصالا. وبعد لحظات دخل علينا أبراهام بكيس أسود في يده سلّمه لجاكوب ثم خرج. فتقدم مني هذا الأخير وألقى بذاك الكيس على الأرض قائلا :“ ها قد وفيت بوعدي ”
انحنيت ورفعت ذلك الكيس ثم فتحته وبقيت في مكاني أنظر في دهشة دون أن أتكلّم وكأنّني في حلم، بل في كابوس لعين وعيناي الواسعتان تتساءلان في استفهام: “ أيكون قد مات؟” لم أجد في ذلك الكيس سوى ملابس سليم والكوفية التي كان يرتديها بعنقه. كانت أدباشه ملطخة بالدماء. شعرت أنّ الأفكار تسقط من ذاكرتي المتعبة، وازدحمت الصّور في مخيّلتي حتّى عدت لا أرى شيئا. سرت في جسمي من قمّة رأسي إلى أخمص قدميّ رعدة كانت أعنف ما يمكن لأوصالي وصرخت إجهاشا يمزّق الأكباد “ هل مات؟ أحقا مات؟ أحقا لن أر سليم مرة أخرى؟ أجبني أيها المجرم أجبني” نظر إلي إيتان وقد وقعت على الأرض من أثر الفاجعة ثم ردّ : “ أجل، هذا جزاء المتطاولين فلتعتبري” كانت الدموع تنسكب من وجنتاي تباعا بلا توقف وجعلت أسأل بغصة بالغة والشهقة تملأ حنجرتي: “ لماذا؟ ما الذي فعله؟ بم أذاك كي تفعل فيه هكذا ؟ لماذااا أيها الكلب” نهضت شيئا فشيئا وانهلت عليه ضربا ولكما في صدره بيداي الضعيفتين. حتى ضرباتي لم تكن موجعة من فرط الوهن الذي شعرت به حتى سقطت على الأرض وبقيت ممسكة بربلة ساقه أضربها وأسأله لم فعل هذا بصوت متقطع ونحيب متصل وبكاء مسترسل. كان الحزن يمتصّ قلبي امتصاصا فيسلبني قوتي ويقضي عليّ شيئا فشيئا. خلّص جاكوب ساقه من يدي وغادر فبقيت وحيدة أذرف الدموع طيلة الليل متكئة على الحائط. لقد فقدت اليوم خطيبي وابن عمي وصديق طفولتي، اعتراني ندم شديد، ليتني استطعت أن أحبه كما أحبني، ليتني عندما سألني عن مشاعري تجاهه لم أخبره بأنه أخ بالنسبة لي ليس أكثر. ليتني عندما سألني لم قبلت طلبه للزواج إذن لم أخبره أني وافقت لأني وجدت فيه الرجل المناسب وأني أؤمن أن الحب يأتي بعد الزواج، ليتني عندما طلب مني أن تكون هذه الرحلة فرصة ليتأكد كل منا من مشاعره تجاه الآخر لم أحرجه وأخبره أن مشاعري مادامت لم تتغير لعشرين سنة فلن تتغير الآن. ليتني وليتني... كانت السّاعة تتنقّل ببطء، والوقت يمضي متثاقلا يضني النّفوس مشحونا بالأم والندم.
في الخارج كان جاكوب لا يزال منهمكا في عمله في المكتب، رفع رأسه وألقى نظرة على الساعة الحائطية المعلقة فلما رأى أن الوقت قد تأخر حمل ملازمه وخرج ثم تذكرني أمام الباب فعاد أدراجه إلى المصحة ووجد الحارس لدى الباب.
جاكوب: - هل اصطحبتم تلك الفتاة إلى زنزانتها؟
الحارس: - آه، ماذا؟ عفوا سيدي نسيت هذا أنا آسف سأنقلها على الفور
جاكوب: - انتظر لحظة
دخل جاكوب خلسة ورائي فلم أتمكن من رؤيته في الظلام الدامس ولكنه على الأغلب رآني أو سمع شهيقي وأنّاتي وسرعان ما خرج ثم خاطب الحارس
جاكوب: - لا بأس دعها هنا الليلة .
الحارس: - حاضر سيدي، كما تشاء.
وطلع الصّبح وتبدّد الحلم وقد غفوت فلم أفق إلّا على صوت جاكوب. فتحت عيناي فرأيته واقفا صحبة ميريكا وروبن وآخرين تفاجؤوا بوجودي روبن: - ماذا تفعلين هنا إيسمين؟
- اسمي ياسمين وليس إيسمين.
روبن: - إيسمين اسم يهودي ويناسبك أكثر ما دمت قد أصبحت واحدة منا. هل أفاق الزعيم بنيامين؟
- مُرْ أحد الأطباء أن ينزع عنه أثر البنج وسيستفيق. أريد أن أعود إلى غزّة. ها قد أنقذته، دعوني أذهب.
روبن: - ألم تسمعي ما أخبرتك به البارحة أم أنّك نسيت بهذه السرعة؟ من اليوم صرت طبيبة لهذا الجيش ولذا لن تغادري هذا المعسكر إلى آخر رمق من حياتك أفهمت الآن؟ هيّا خذوها إلى زنزانتها !
الجندي: - حاضر سيّدي.
الجنرال هومز: - مبارك ميريكا، ها قد عاد إلينا والدك اللّواء بنيامين بسلام
ميريكا : - أبي، أبي هل تسمعني؟ ، أبي.. آه.. انظروا لقد فتح عينيه أخيرا.
روبن: - هنيئا على سلامتك سيدي
بنيامين: - اطمئنوا..لن أموت قبل أن أقضي على جميع الفلسطينيين وأمسح أثرهم.
ميريكا: - أبي. لقد أخفتنا عليك، استرح الآن ولا تتعب نفسك بالكلام.
روبن: - ههههه سنسترجع أرضنا يا سيدي وسننتصر لا محالة.
ميريكا: - هؤلاء كانوا عبيدا لنا من البداية وخدما تحت أقدامنا وسيبقون هكذا إلى الأبد فلا تقلقوا جميعا. المهمّ أن تتعافى الآن يا أبي.
بنيامين: - ما بك جاكوب؟ لم لا تقول شيئا؟
جاكوب: - آه.. كلا.. أنا سعيد بعودتك سالما ولكن لدي عمل. عن إذنكم!
بنيامين: - ولاؤه وتفانيه في خدمة جيشنا وعزمه الشديد على الانتقام يجعلانني أفخر بتربيته وبتزويجه ابنتي.
هومز: - أشاطرك الرأي سيدي فجاكوب قائد شجاع وداهية في المكر كما أنه يتمتع ببنية جسدية قوية ويحظى بفنون قتالية عالية. أحسنت الاختيار سيّدي. هل تعلم أنّه كان سببا في إنقاذ حياتكم؟
بنيامين: كيف هذا؟
روبن: - ثمّة طبيبة عربية متخرجة من جامعة أمريكية ومتحصلة على جائزة نوبل للطب أقدمت إلى هنا لتعالج الفلسطينيين فاصطدناها لنا... وبقي روبن يقص الحكاية على سيده حتى أمره بأن يحضرني إلى قصره في مساء الغد. وكذلك فعل إذ قدم أبراهام فأخرجني من قفصي وأخذني إلى جاكوب الذي مسك يدي وأمرني أن أذهب معه ورغم أني نزعتها بقوة ألّا أنه مسك ذراعي ثانية وجرني حتى أركبني في سيارته فلما وصلنا القصر ودخلنا الحديقة هبّت ميريكا نحوه وطبعت على جبينه قبلة
ميريكا: - لمَ لمْ تأت البارحة؟ قلقت عليك كثيرا. حتى هاتفك كان مغلقا.
جاكوب: - انهمكت في العمل ونسيته.
دخلنا وهو يقتادني إلى هناك حتى لقينا بنيامين جالسا على الأريكة المقابلة وجلس الجميع بينما بقيت واقفة.
بنيامين: - بإمكانك أن تجلسي
- لم أتعود الجلوس على الكراسي النجسة المدنسة.
قام من مكانه متظاهرا بالابتسامة فتقدم تجاهي وما لبث أن صفع وجهي حتى وقعت على الأرض ثم قال: “ لا تحسبي أن إنقاذك لحياتي، يبيح لك التطاول علي. فلتعتبري هذه الصفعة مصافحة أولى للتعرف” ومد لي يده ليوقظني فتركتها ممدودة ونهضت بمفردي فأضاف: “ جاكوب، على طبيبة الجيش الإسرائيلي أن تكون قوية البنية أريد منك أن تدربها متى استطعت ”
جاكوب: - حاضر
بنيامين: -ستبقى تحت وصايتك دائما. فاعتني بها ولا تتركها تقطن في زنزانة. أسكنها في إحدى غرف الطابق الثاني للمعسكر كي تكون قريبة منك دائما وتحت رقابتك. أنت المسؤول عنها إذا هربت.
جاكوب: - لا تقلق سيدي
بنيامين: جيّد. اتبعني إلى الداخل إذن... غدا سوف يقف الحجيج على الحدود ليذهبوا إلى مكة، نريد أن نمنعهم من المغادرة وأن ننسفهم
جاكوب: - وماذا عن الرأي العام سيّدي؟
بنيامين: - ههههه سنتصرف كعاداتنا. في الأساس لسنا نحن من سيقضي عليهم، مجرد الانتظار في تلك الشمس الحارقة بدون قوت أو مأوى ومع كبر سنهم سيقضى عليهم. وإن صارت مناوشات واشتباكات فسنقطع الرقاب. ”
كنا في طريق العودة عندما طلبت من جاكوب أن يوقف السيارة لأنني أحسست بمغص في معدتي وبحاجة إلى التقيئ. أوقفها فنزلت ثم نزل خلفي ابتعدت قليلا وتظاهرت بمحاولة الإستفراغ ثم أخذت أجري بأقصى سرعتي محاولة الهروب. وانتبه إليّ فأخذ يلحق بي. حاولت الإسراع وواصلت الركض بدون أن ألتفت إلى الوراء وفجأة وقعت على الأرض. كنت أحاول أن أتجشّم عندما وجدته يقف أمامي ضاحكا: ” محاولة غبية ” ثم جلس القرفصاء وسأل: “هل تأذيتي؟” فأجبته بحدّة ”ما شأنك؟ ” نهض ثم أمسك بي حتى أركبني السيارة مرّة أخرى.
جاكوب: - لم تحاولين الهروب؟ ما الذي ينقصك هنا؟ وضعك أفضل من وضع الأسرى بكثير: غرفة خاصة، طعام وشراب، تزاولين عملك... ماذا تريدين أكثر؟
- آسفة. ولكني أريد شيئا لن تفهمه أبدا طيلة حياتك وربما أيضا بعد مماتك. شيء يسمّى عزّة أو يكنّى كرامة. من المؤكد أنك لم تسمع بأشياء كهذه من قبل! وأنّى لأمثالك أن يفهموا هذه الأشياء؟ أنتم مجرد عبيد تتلقون الأوامر وتنفذونها مهما ارتفعت منازلكم تبقون عديمي النخوة...
وعلى حين غرّة ضغط جاكوب على الفرامل حتى ارتجّت السيارة ووقفت. ثم نزل فانحنى وأمسك بهرّة صغيرة عرجاء تجوب الطريق فوضعها على الرصيف ثم صعد وانطلق مجدّدا. بقيت شاخصة لا أفقه شيئا. كيف أمكن له أن يقتل البشر وينقذ الحيوان؟ أيكون هذا الذي بجانبي جاكوب المجرم القاتل ؟ وددت لو أسأله فلم أجد بدّا وتجاهلت القصة فأردف: “عن ماذا كنا نتحدّث؟ آه... عن الكرامة أريد أن أسألك بدوري: هل أنت مختلفة عنّي؟ من هنا فصاعدا أنا أنفّذ وأنت تنفّذين، الفرق أنني أنفذ بقناعة تامة، أنفذ ذلك بفخر، أنفذ وأنا أسترجع حقّي وحقّ أمي وقومي وبلدي، أنفّذ وأنا هنا قائد الوحدات وآلاف الجنود تحت إمرتي. ماذا عنك؟ أنت تنفّذين خوفا ورضوخا واستسلاما، تنفذين وتذعنين للقرارات وتطبقين المطلوب بلا إرادة وبلا قناعة. في المرة القادمة أنصحك أن لا تتصرفي وكأنك أفضل مني حالا ها قد وصلنا هيا انزلي...آه قبل أن أنسى... أنصحك أيضا أن لا تحاولي الهروب مرة ثانية”
- لست في حاجة إلى النصح من خسيس بلا ذمّة مثلك.
لم استطع قول غير هذه الكلمات للأسف انعقد لساني أمام إهاناته. لو عشت ذلك المشهد مجددا لكان لي جواب ثان وحجج ثانية أدافع بها عن نفسي وأورّطه غير أن الكلمات ضاعت مني فجأة في تلك اللحظة وبت عاجزة على ردع إحساسي بالذل والمهانة أمام عباراته. فتحت باب السيارة لأنزل وفجأة رنّ هاتفه تناوله من جيبه ثم أجاب:
- ماذا هناك ميريكا؟ .. أجل.. حسنا سآتي.
أظنني وجدت الفرصة للتوّ لأفصح عما يختلج في صدري فالتفت إليه قائلة: - الليلة، وأنت تنام في حضن زوجتك، تذكر كم زوجا قتلت زوجته أو اعتديت عليها نصب عينيه. ربما تعرف عندها الفرق بيني وبينك .
جاكوب: - لم أغتصب فتاة قطّ في حياتي
- أتعجب من نفسي أحيانا ! لم أستغرب الكذب من قذر مثلك!
أغلقت باب السيارة بقوة ثم دخلت المعسكر فاقتادني أحد العساكر إلى
الغرفة المخصصة لي. أما جاكوب فقد عاد أدراجه إلى منزله. دخل فاستقبلته ميريكا بكل ترحاب وساعدته في نزع معطفه ثم عبرت له عن اشتياقها الكبير له وتلهفها لعودته إلى البيت بعد ثلاث ليال من الغياب ثم اقتربت كي تضمّه من الخلف فنزع يديها عنه ودخل قاعة الجلوس. حزّ ذلك في نفسها ولكنها تظاهرت بأنّ شيئا لم يحدث واقترحت عليه أن يذهبا للعشاء فرفض. فعرضت عليه الخروج للتنزه ونسيان ضغط العمل فأبى. ثمّ أخبرها بأنه لا يريد الذهاب إلى غير النوم. حينها لم تستطع ميريكا تحمّل المزيد واصطناع الهدوء مجددا فصرخت في وجهه: جاكوب لم تعاملني هكذا؟ لك كل ما حاولت الاقتراب منك خطوات ابتعدت أنت أقدام؟ لم كل ما حاولت تخفيف هذا الجفاف الذي يشحن علاقتنا منذ أن تزوجنا ملأتها أنت أكثر فأكثر؟ كل هذا من أجل الإنجاب؟ لهذا صرت لا تطيقني ولا تطيق البيت؟
جاكوب: - ميريكا ما علاقة هذا الأمر ، لا تخلطي الأمور بهذه الطريقة
ميريكا: - كلا، أنا لا أخلط الأمور ولكن مشكلتك الوحيدة معي هي الأطفال.
جاكوب: - حسنا اعتبري ذلك صحيحا إذن، انظري إلى هذا البيت كم يبدو خاليا ومقفرا! ميريكا لقد ذقت ذرعا. كل ما أطلبه منك مجرد طفل صغير يملؤ هذا البيت دفئا وحنانا. هل يبدو هذا الطلب تعجيزا؟ هل يبدو صعب المنال؟
ميريكا: - طلبت منك ألف مرة أن نتبنى طفلا فرفضت ذلك بشدة.
جاكوب: - لأني أخبرتك ألف مرة بأنّني لا أفتح جمعية خيرية. أريد طفلا من صلبي،وريثا يحمل اسمي فلا تحاولي سدّ عجزك بفكرة التبنّي مرة أخرى.
وتواصل الشجار بين جاكوب وميريكا حتى حمل معطفه وغادر البيت. في تلك الأثناء كنت في تلك الغرفة فجال في خاطري كلام جاكوب وتساءلت عن مصيري هل سأستمرّ هكذا ؟ إلى متى سأبقى في هذا المعسكر؟ هل سأتحول إلى طبيبة الجيش الإسرائيلي حقّا؟ هل سأصبح ذلك الحمل الوديع ؟ بدت لي الغرفة ضيّقة، موحشة، وانكمشت داخل فراشي، بين أربعة جدران، وظللت السّاعات الطّويلة شاردة الذّهن، لا أكاد أستقرّ على حال وازدادت حالتي تأزّما وانتابتني وحدة وكآبة وسيطرت عليّ رغبة عارمة في الانزواء والهروب من أعماقي المتمزّقة وكلّما أوغلت في وحدتي أحسست بتحدّ داخلي. وفجأة سمعت صوتا. فنهضت ووقفت أسترق السمع:
الجنديّ: - سيّدي هناك فتاة صغيرة ضمن الأسرى تشكو مرضا ما.
أبراهام: - أحضرها إلى هنا على الفور.
الجنديّ: - حاضر سيدي.
وبعد قليل سمعت صوت أقدام وصوت أنين وإعوال ولكني لم أستطع رؤية وجهها عبر الثقب ففتحت الباب وخرجت
أبراهام: - من سمح لك بالخروج من غرفتك؟ هيا عودي حالا !
- دعني ألقي نظرة على المريضة
أبراهام: - عودي إلى غرفتك
- رجاءا
الجنديّ: - سيدي هذه الفتاة ابنة “سعيد شاكر”
أبراهام: - ماذا؟ ما العمل إذن؟
كنت أنظر إلى الفتاة بكل شفقة، كان تنفسها متقطعا وقصيرا تئنّ أنينا يتقطّع له القلب، ويذوب له الصّخر. أما عيناها فكانتا تعبتان، كأنها في حالة من الحمى، وكان وجهها شاحبا وكأنها في نزاعها الأخير. كان يثير في النفس مشاعر الأسى والألم إلى حد كبير. والدها أحد قيادات المقاومة وبالتالي لم يعرف أبراهام كيف يتصرف فخيّر الاتصال بجاكوب الذي وصل بعد برهة
جاكوب: - أبراهام ما الذي يحدث؟
أبراهام: - إسراء شاكر إحدى الأسيرات وابنة زعيم المقاومة تلفظ أنفاسها الأخيرة على ما يبدو
- جاكوب أرجوك دعني ألقي نظرة عليها ربما استطعت مداواتها أرجوك جاكوب: - لا أصدق ما يحدث. هل تتوسلين إليّ الآن بعد ما قلته منذ قليل.
هذه الفتاة نحن من أمرنا بقتلها فكيف تريدين مني أن أسمح لك بمداواتها
- ماذا تقصد؟
جاكوب: - نحن من أمرنا بتسميمها. هل اتضح لك الأمر الآن؟ هيا عودي إلى غرفتك ولا تتدخلي بأمور لا تعنيك.
بقيت صامتة ، أنظر إليه نظرة غيظ وحنق وفجأة ارتمت الفتاة الصغيرة على الأرض وأغمضت عينيها فترقرقت دمعة اليأس في عينيّ ولأوّل مرّة شعرت أنّ الحياة تلفظني وتتحدّاني واشتدّ بي الغضب ولم أعد أتماسك نفسي فاندفعت نحوه ولكني لم أجد قوة للصراخ واكتفيت بسؤال:
- أنت متزوج أليس كذلك؟
جاكوب: - أجل، ماذا بعد؟
أبدا.. أردت فقط أن أسأل كيف بإمكانك أن تحضن أبناءك وتمسح على شعورهم بهذه الأيادي القذرة الملطخة بالدماء؟ كيف لك أن تضمهم إلى صدرك وتقربهم من هذا القلب المريض المليء بالوحشية؟
جاكوب: - قلت أني متزوج ولم أقل أنّ لديّ أبناء.
- آه فهمت... في الواقع هذا أمر طبيعي فنحن النساء العربيات نثق بأزواجنا وبقدرتهم على منح أبنائنا الكثير من الرحمة والحب والحنان والدفء ولهذا ننجب منهم الأطفال، أمّا أمثالكم من عديمي الشرف وفاقدي الضمير فنساؤكنّ لا يثقن بكم البتة لأنهنّ يوقنّ بعجزكنّ عن منح هذه المشاعر لأيّ كان ، فكيف تريد من زوجتك أن تنجب الأطفال لمجرم مثلك؟
اخترقت كلماتي بواطن جاكوب لأول مرة على ما يبدو فلم يستطع كضم غيضه ولا أسر غضبه وقام من مكانه فعلم أبراهام مسبقا أني لن أكون بخير. اقترب جاكوب فرفع يده وصفع وجهي بكل قوة ثم صفعني ثانية وثالثة ثم جذبني من شعري وجرني إلى الحائط المقابل وأخذ يضرب برأسي عرض الحائط مرارا وتكرارا والدماء تسيل منه بغزارة ثم مسك رقبتي وضغط عليها بكلتا يديه حتى كدت أختنق ونزلت قطرة دم من رأسي النازف على يده فرفع عيناه إلى عيني الخضراوتين المتضرعتين فرأى فيهما فجأة ما شوّش باله وذبذب ذاكرته وشعرت بيده الممسكة بعنقي ترتعش أكثر فأكثر. ارتسمت في مخيلته تلك المرأة ذات الشعر البني وهي تتضرّع وتطلب الرحمة، ذلك المشهد الذي لم يغب من خياله مذ كان طفلا والذي جعله يتركني يومها. فتح أصابعه فانبجست رقبتي ووجدت نفسي أهوى على الأرض فاقدة قواي.حاولت الوقوف تدريجيا وتمسكت بالحائط كي لا أقع. كانت ملامح أبراهام توحي بدهشة وتعجّب كبيرين في حين احمرّ وجه جاكوب وحنق. شعرت بالدوار الشديد فخطوت رويدا رويدا. كانت خطواتي غير متزنة ـ أتعثر في طريقي، أميل ذات اليمين وذات اليسار، وفجأة ارتميت إلى الوراء وكدت أنحدر لولا أن مسكني أحد من الخلف بين ذراعيه، ثم رفعني وحملي إلى غرفتي وقد اتكأت عليه، مغمضة عينيّ المنهوكتين من شدة التعب .. ولم أتفطن إلا عندما وضعني في فراشي أنه كان جاكوب. وما إن خرج وانخرطت في نوبة من البكاء الموصول وانتسبت إلى وصلة من الذهول. أيعقل ما أراه؟ أيفهم ما أعيشه؟ فجأة احتجزت في هذا المكان، فجأة فقدت اثنين من زملائي، فجأة خسرت رفيق دربي وصديق طفولتي، فجأة أهنت وضربت، أصبحت أيامي مجرد مفاجآت تأتي على حين غرة وتجعلني أمام الواقع المحتوم أرضخ وأمام المصير البائس أركع. أ يُفقه ما يفعله جاكوب؟ في الصباح يقتّل الآلاف وفي المساء ينقذ القطط، قبل قليل كان يضربني ويخنقني وبعدها بثوان يحملني بين ذراعيه إلى فراشي... في حيرة من أمري أمضيت ليلتي.
أمّا جاكوب فقد عاد إلى منزله ولم يستطع أن ينام طوال الليل. ظلت نظراتي الثاقبة شاخصة في خياله، وظل مشهد ضربه لي عالقا في ذاكرته إلى أن أشرقت الشمس في الغد ونشرت أشعتها على قبة المسجد الأقصى، هناك حيث يدخل ثلة من اليهود ليؤدّوا مناسكهم ويمارسوا طقوسهم في ظل حراسة أمنية مشددة وأمن مستتب، هناك حيث انتصبت امرأة فلسطينية في عمر يناهز التسعين تسأل الحارس أن تصلي صلاة ببيت المقدس مرة قبل أن تموت فيدفعها فتسقط ويركلها فيرتطم رأسها بالرصيف فتفارق الحياة دون تلك الأمنية، هناك حيث كان المسجد الأقصى صامتا خاشعا وكأنه يبكي ويشكو وكل مبنى حوله في سكون يسمع شكواه ويشاركه أنّاته. في صباح ذلك اليوم أفقت أتلمّس وجنتي المنتفخة وشفاهي المشققة وعيني المتورمة ومرّ شريط من ذكريات الأمس أمامي شردت فيه ولم أستفق إلا على صوت طرق الباب
- من هناك؟
- دكتورة ياسمين أنت مطلوبة في المستشفى.
- حسنا سآتي.
لبست ثيابي ونزلت إلى الطابق السفلي فلاحظت وجود حركة غير معهودة وسمعت صوت أحد القادة يأمر فريقه بالاتجاه نحو المعابر وآخر يكلف جنوده باللحاق بفرقة جاكوب عند البوابة الشرقية وكنت أمشي بينهم داعية ربي أن يخيب آمالهم ويفشل مخططاتهم وقصدت المكان الذي كنت أبيع كرامتي فيه كالعادة، أين أكره المهنة التي عشقتها دوما، أين أشعر بالقذارة والدناءة، أين تكبِّل حياة الأطفال يدي وتلجّم فمي وتعقد لساني.
أمام المعبر وقف العساكر ناصبين الأسلاك الشائكة مانعين الحجيج من المرور. كلما تقدم أحدهم ليناول أوراقه إلى جندي رموا بملفه جانبا وقالوا أنه منقوص حتى ذاق المنتظرون ذرعا وتآمرت الطبيعة ضدهم حيث كانت الحرارة مرتفعة جدا وراحوا يتقاسمون ما تزودوا به من غذاء ومياه وما مر يومان حتى أصيب معظمهم بالتعب وفقد آخرون الوعي ومنهم من فارق الحياة. على الرصيف ارتمت مسنة كدها الجوع وأشقاها العطش وأرهقها الحر وأنهكها التعب تدعو على الجنود فقتلها أحدهم. في الجانب الآخر تجلد أحد الرجال فنهض ليخاطبهم فقتلوه ولمّا يصل إليهم حتّى، وكلما تدخل الممرضون أو الصحافيون كان مصيرهم القتل أو الاعتقال.
وعادوا أخيرا إلى المعسكر الإسرائيلي فرحين بنصرهم السخيف، نصر حققه
مئة جندي مسلّح أو أكثر أمام ثلة من الشيوخ العجزّ والمسنّين العزّل. مشى أبراهام يتفاخر بجانب جاكوب وما إن وصلا مكتب بنيامين حتى التفت.
أبراهام: - أدخل أنت، سأذهب إلى المصحّة
جاكوب: - لماذا؟
أبراهام: - جرحت يدي قليلا. سأذهب كي يضمّدوها لي. عن إذنك.
مضى أبراهام ووقف جاكوب متعجبا لأنه لم يلحظ خدشا في يده قط.
صعد أبراهام إلى غرفتي ولم يذهب إلى المصحة كما زعم. دخل فجأة وبدون استئذان فلما وقفت من مكاني لأطرده جذبني ورماني على السرير وحاول الاعتداء عليّ فاشتدّ خوفي وما أصعب وأمرّ أن يقع الإنسان في قبضة الخوف فيدهوره ويحطّم معنوياته ! تعالت صرخاتي تباعا فلما مدّ يده إلى أزرار قميصي، تفلت في وجهه وحاولت الهروب فأمسك بي ثانية وأحكم إغلاق الغرفة وارتفع صوت استغاثاتي حتّى وصل أحدهم في اللحظة الأخيرة وأخذ يطرق الباب صارخا:
جاكوب: - أبراهام افتح الباب
أبراهام: - جاكوب هذا أنت، لا تتدخّل في شؤوني !
جاكوب: - أبراهام قلت لك اتركها حالا. هيا افتح الباب
أبراهام: - لا علاقة لك بالأمر !
عمد جاكوب إلى ضرب الباب بقوّة حتى خلعه فولج وجذب أبراهام ثم لكم وجهه وجذبني ليخرجني فنهض أبراهام ثانية وقال له بحدّة بالغة:“ما دخلك بها؟ أم تراك نسيت أنّها إحدى الأسيرات وأن النظام يخوّل لنا ممارسة ما نشتهي معهنّ؟ ”
جاكوب: - ابتعد وإلاّ.. !
أبراهام : - وإلا ماذا؟
مدّ جاكوب يده فضمّها ولكمه ثانية ثم جذبني وأنا أرتعد. أدخلني غرفته الخاصة فأجلسني على كرسيّ وأبعد شعري الذي تلبّد فغطّى عينيّ ثم ناولني كأس ماء وسألني“ هل أنت بخير؟ ” فأسقطت ما بين يديّ من فرط ارتباكي وتبلل طرف سرواله بالمياه فلم يعبث ووضع يده على كتفي فنزعتها بقوّة ونعرته “ ابعد يداك عني أيها المجرم ابتعد ! أكانت هذه مسرحية من إعدادكم؟ ابتعد ! ” صرخت بطريقة هستيرية كالأهوج الممسوس ثم رحت أرمي بكل ما حولي أرضا وتغيرت نظراتي حتى اضطر جاكوب إلى استدعاء طبيب ليفحصني. حقنني المهدئ ثم شرح لجاكوب أنني أصبت بانهيار عصبيّ وطلب منه أن يبعدني من هذا المكان لفترة وجيزة كي أستريح. خرج ليفكّر لبرهة ثم عاد فاصطحبني اتكأت عليه وقد كنت عاجزة على المقاومة من أثر الحقنة. امتطينا سيارته ومضينا ومضى في ذهني شريط العادة. أصبحت تائهة ضائعة لا أفرّق الصديق من العدوّ. من رأى اليوم كيف كان يدافع عني بشراسة يخال أن جاكوب شديد الاهتمام بأمري والتعلق بي ومن يراه كيف عذبني في المرة الدابرة يخال أنه أشدّ الناس لي كرها وأكثرهم علي حقدا وسخطا. وقفنا أمام بيت قديم فمر بذهن جاكوب شريط طويل من ذكريات الطفولة التي شرد فيها لزمن ثم نزلنا ودخلنا إلى هناك. ولجنا غرفة فساعدني للوثوب على الفراش ثم خرج ودخل غرفة صغيرة أخرى. كان بها سرير صغير ،خزانة قديمة، بعض اللعب والدببة القطنية على الأرض وفي الركن انتصب صندوق خشبي كبير.
التمعت عيني جاكوب ومرت بها العبرات، تنهّد بصمت ثم اقترب من الصندوق الذي تلحف بالغبار وشباك العنكبوت ففتحه. كانت به ألعاب بالية وإطار به صورة والدته. تناول تلك الصورة فتأمّلها حتى احمرّت عيناه وبدا عليه التأثر ثم استجمع ملكاته “ آسف أمي. ولكنّي لا أعرف لمَ تذكرني تلك الفتاة بك كثيرا؟ لم عندما أحميها أشعر بأني أحميك؟ لم كلما دقّقت فيها النظر غصت سابحا في بحار عينيها وهبّت صورتك إلى مخيلتي مباشرة. آسف أمي أعلم تماما أن هذا يزعجك. كيف لا تغضبين من ابن يعامل واحدة من الذين ظلموك كصاحبه ! تأكدي أنني سأضع حدا لهذا الأمر. لا تحزني لما رأيت مني من ضعف. سأواصل الدرب حتما وسأعمل على الانتقام لك طيلة حياتي” كان بصدد إرجاع الإطار إلى مكانه عندما رأى سوارا أحمرا صنع من الجلد الرقيق. تناوله فدقق فيه النظر وشعر أنه رآه قبل هذه المرة ثم خانته الذاكرة فوضعه في جيبه وغادر. مرّ عليّ وأخبرني بأنه سيأتي في الليل لإعادتي إلى المعسكر وأخبرني بأنه سيقفل الباب مخافة أن أهرب. فطلبت منه أن يوضح لي لم ساعدني فأجاب بردّ غامض لم أفهم منه شيئا. قال بصوت خافت وكأنه يحاكي نفسه عوض أن يخاطبني “ لأن تلك المرأة التي تشبهك كانت قبل بضع وعشرين سنة في نفس الوضع الذي كنت أسيرته قبل قليل وكنت حينها عاجزا عن حمايتها”
في تلك الأثناء كان أبراهام يحتقن غيضا فما إن لمح جاكوب عائدا حتى اندفع إليه فمسكه من مئزره.
أبراهام : - أين هي تلك الفتاة؟ أين أخذتها؟
جاكوب : - الأمر لا يهمك بتاتا. وإياك أن تعيد ما فعلته ثانية !
أبراهام : - أظنك صرت عاطفيا أكثر من اللازم. أ تراك نسيت ما فعلته أنت بها منذ أيّام؟
جاكوب : - كفاك سخفا. أنت تعلم مسبقا أنّي أعارض اغتصابكم لأي أسيرة
أبراهام : - حسنا، أين أخذتها؟
جاكوب: - ابتعد من أمامي !
أبراهام : - أنت تخالف القوانين !
جاكوب : - أنت من خالفتها أولا! ياسمين أصبحت الطبيبة الرسمية للجيش لذا فأنا أعتبرها مواطنة إسرائيلية ثم إنني أنا المسؤول عنها وعن حمايتها.
ترك جاكوب أبراهام الغاضب واقفا وقصد مكتبه، ارتمى على كرسيه الدوار ورفع رأسه إلى السقف ثم وضع يده في جيبه فأخرج ذلك السوار، قلبه مرة ثانية وهدرا حاول استرجاع ذاكرته فلما فشل أعاده وانخرط في العمل. في الليل كان في موعده وأتى فاصطحبني إلى المعسكر. عند الباب نظرت إليه ثم قلت" جاكوب " فاستغرب وقاطعني " هذه أول مرة لا تناديني فيها بالمجرم" ابتسمت ثم شكرته على ما فعل معي اليوم وصعدت إلى غرفتي، وارتميت على السرير أفكر في أمره. أيعقل أن يملك جانبا خيّرا في شخصيته! لم لا؟ لم لا يكون في قلبه بعض الإنسانية! ولكن من هي تلك المرأة التي تحدث عنها! بقيت أتخبط في بحر التساؤلات بلا أجوبة. وأكثر ما دفعني إلى الحيرة آخر كلمة قالها جاكوب عندما كنت أصعد السلم "بشأن تلك المرة التي... أعلم أنني بالغت.. آسف" دام تفكيري به برهة طويلة فلمّا استدركت نفسي أحسست بالخجل ويحي! كيف لي أن أفكر فيه بهذه الطريقة! أتراني نسيت ما فعله بعمرٍ وطارق وسليم.. وإسراء أيضا وكذلك الحجيج والمئات من الذين لا أعرفهم.. أيعقل أن يكون وحشا بمشاعر! ربما كان سفاحا رؤوفا..أو علّه كان مجرما رحيما! ...ما هذا ياسمين كفي عن الغباء سيضل مجرد وحش سفّاح قاتل ومجرم.كفّي عن التفكير به.
مضت أيام هادئة في المعسكر وأخرى متشنجة ولكن حالتي كانت تسوء يوما بعد يوم. أصبح العمل والطبّ بالنسبة إليّ مهانة في أحط درجاتها وحقارة في أشمل معانيها. كنت كلما داويت جروح أحد الجنود شعرت بذاك الجرح يُفتح بداخلي ويأبى أن يلتئم. ولكن مُصاب اليوم لم يكن إسرائيليا كالعادة، كانت أسيرة عربية اعتقلوها في غزة عندما كانت تحاول إنقاذ أحد الجرحى فأطلقوا عليها رصاصهم ولكنّهم الآن بحاجة إليها ليستقوا منها بعض الأنباء، وكان علي إذن إبقاءها على قيد الحياة وفق أوامرهم وإلّا فالرّهان معلوم. اقتربت من الجريحة وكشفت عن وجهها لأراها فكانت الدهشة. صحت فجأة "مريم" نظرت إليّ إحدى الممرضات وسألتني: "أتعرفينها؟ " فنفيت ذلك وزعمت أنّني ظننتها في سابق الأمر فتاة أعرفها فلم تكن هي. ثم أمرتهم بتجهيز غرفة العمليات حالا بينما كان باطني يصرخ " تحملي مريم. عزيزتي أرجوك كوني قوية. سأنقذك بالتأكيد" . نظرت إلى بقية الطاقم ثم أردفت: “ احملوها إلى غرفة العمليات سأنظر في الكشف وآتي في الحال” مضيت وفي يدي صور التحاليل، كانت هناك مؤشرات واضحة تدل على تلف الأوعية الدموية بالقلب. رحت أحاول ضبط نفسي والتقليص من حدة التوتر الذي امتلكني. سعيت للتركيز بكل قواي ولكني كنت مشوّشة جدا وكأني لم أقم بجراحة قبل هذه. رميت في الأخير بالأوراق ودخلت غرفة العمليات ثم جهّزت نفسي وانطلقت. كالعادة كانت كل عملياتي مراقبة من الأعلى فما إن رفعت بصري حتى لمحت جاكوب وروبن ثم بنيامين الذي لحق بهما فيما بعد.
روبن: - ألا تلاحظون أن إيسمين تبدو مضطربة بعض الشيء!
بنيامين : - أجل، أمر غريب. المهم أن تعيش هذه الفتاة. بلغني أنها كانت طبيبة بمركز المقاومة. ستكون أشبه بخزّان أسرار وعلينا أن نعرف مخططاتهم بشأن الذكرى الثالثة والستين لما يدعونه بالنكبة.
روبن: - أنت محق يا سيدي. لا بد لنا من معرفة ما يدور داخل المعسكرات الفلسطينية كي نأخذ الاحتياطات اللازمة. ما بك جاكوب؟ لم تتابع بصمت؟
بنيامين: - وكأن الصمت غريب عنه. الكتمان ميزة جاكوب.
في خضم تلك العملية كنت أتفصد عرقا خاصة عندما انخفض ضغط الدم ونسب المؤشرات الحيوية والتي عادة طبيعية بعد عناء كبير وما إن فرغت حتى مضيت لأنزع قفازيّ الملطخين بالدماء. وفجأة قدم نحوي
جاكوب مخاطبا:
جاكوب: - أحسنت صنعا
- لا أعلم إن كنت قد أحسنت صنعا بإنقاذها أم أني قد أسأت عملا.
وعلى حين غرة دخل بنيامين ليسأل عن موعد استفاقتها فأمهلته أيّاما نظرا لكونها لم تسعف على الفور . مضيت بعدها إلى غرفتي واستلقيت على سريري مثقلة بالأرق والحيرة حتّى كاد الضيق في صدري يعذبني والإمعان في التفكير يرهقني ما الذي سيحصل الآن؟ ماذا إن قاموا بتعذيبها عند الاستجواب؟ لم أستطع النوم فنزلت إلى الأسفل أطرق باب النسيم علّه يفجج قلبي فيمتص منه الحزن ويزوّده ببعض الانشراح. مسكني أحد الحرّاس فسألني:
الحارس: - إلى أين؟
- أريد التنزّه في الحديقة قليلا
الحارس: - ممنوع. معنا أمر من الرائد جاكوب بمنعك من مغادرة هذا المقر.
- ابتعد من أمامي. أنا لا أتلقى الأوامر من أسيادك !
الحارس: - عودي وإلاّ...!
خلّصت ذراعي من يده وقصدت مكتب جاكوب. فتحت الباب مباشرة فوجدته يجري اتصالا وما إن رآني حتى قال بصوت خافت: “ حسنا ميريكا، سأتصل بك في وقت لاحق” ثم قام من مكانه وصدح
- هل يدخل العرب مكاتب الناس بلا استئذان؟
- لا تتحدّث عن الاستئذان فبدونه استعمرتم وطنا وشيّدتم عليه مبانيَ وقصورا فلا تنهى عن خُلقٍ وأنت تؤتي مثله !
- لم أتيت؟
- لم لا تسمح لي بالخروج إلى الحديقة والجنود يملؤونها جاكوب؟
- هل تعلمين أنك الوحيدة التي تناديني باسمي هنا وأن الجميع ينادونني سيّدي؟
- أجل. ولكن سيدي تعني السيادة والعزّة ولست أرى فيكم سوى المهانة
والحقارة. أريد أن أخرج للحديقة.
- ألم تقولي البارحة بأنني لست مجرما؟
- كلاّ! ربّما فقدت رشدي لوهلة ولكنّك ستبقى طيلة حياتك سفّاحا تبني مركزك بحجم الرقاب التي قطعتها وتعلو بكمّ الدّماء التي أسلتها. أريد أن أخرج من هنا لقد ذقت ذرعا بهذا السجن ولا يمكنني العمل في هذه الظروف.
- تعرفين ! تعجبني طريقتك في طلب الأشياء. لديك أسلوب مميّز . تُسمعين المرء ما لذّ وطاب من الشتائم ثم تطلبين منيتك. ولكن رغم أنّ وسيلتك في الطلب أشدّ غباء منك فإنني سأمكّنك من ذلك فقط وسط المبنى لأنّني سعيد اليوم. عليّ الذهاب الآن.
خرج من مكتبه ومشيت وراءه فقال لأحد الجنود الواقفين: “ دعوها تتجوّل هنا ولكن احذروا أن تهرب منكم ”
خرج بينما بقيت مدهشة لا لأنه سمح لي ولكن لأنها كانت المرّة الأولى التي
أراه فيها مبتسما. بدا مختلفا للغاية...أشرق وجهه فسطع مغايرا. حتى الجنديان استغربا لرؤيته بثغر متهلّل فقد عهد الجميع طبعه الجديّ الواجم.
في عزّة
في مدينة الحصار، في أرض غزّة ،أرض النضال ونبض العزّة. في ذاك الشبر المتبقّي الرافع لراية الكفاح، على تلك التربة الصامدة الحاملة لعلم المقاومة تحت اللظى وقذائف الأخطار، تلك التي منعت المحتلّ من الابتهاج بالأحلام والافتتان بمغازلة الزمن، تلك التي كلّما انفجرت وهي لا تكف عن الانفجار خدشت وجه العدو وكسرت راحته وصدته عن الرضا. هناك بين الحبّ والحرب، حيث صقيع الخوف ووحشة الترقّب ، حيث برودة الموتى وجحوظ العينين ، حيث يذعر الطفل فتسقط اللعبة من يده ، حيث تباد الأُسَر تاركة شايها الصباحيّ ساخنا على المائدة ، حيث تضجر المنازل شوقا لأهاليها ولضحكات الصغار فيها. هناك أين تضل الأغاني ألحانها وتُضيع الأشعار قوافيها وتفقد الرّسوم ألوانها. هناك حيث الزمن اقتحام للظهيرة المشتعلة. سمع أحمد طرقا فخاف أن تكون إسرائيل قد علمت بأمر دار النّشر والجريدة الجديدة. سار بخطى خفيفة ثمّ ألقى نظرة من ثقب الباب
فلم يصدّق ما رأى. فتح الباب وقد تهلّل وجهه ثمّ صدح:
- مرحبا بك، عمّي كِنان.شرفتنا بمجيئك فلتتفضل.
- مرحبا بك بنيّ. آمل أن لا يكون في مجيئي إزعاج لكم.
- كلّا بالعكس، لقد حلّت بنا البركات. هيّا ادخل
- شكرا لك. لقد احتفظت بعنوانك منذ آخر لقاء بلبنان، وأتيته ولم أكن على ثقة بأنّه لا يزال على حاله ولكنّي لقيتك والحمد لله.
- لقد قمت بتحويل منزلي إلى دار للطباعة والنشر، صرت أقيم مع والدتي منذ أن توفّى المرحوم والدي.
- غمدته الرحمة والسكينة.
- آمين. تعال وألق نظرة عمّي. سنخرج في الغد العدد الأوّل من هذه الجريدة. سنفضح بها ممارسات بني صهيون وجرائمهم البشعة أمام العالم من أرض الحدث بالأدلّة والبراهين. ما رأيك؟
- أحسنتم بنيّ، بارك الله في عملّكم ووفّق خطاكم. لولا شعلة الأمل المتّقدة
في أفئدتكم لماتت فيها العزيمة صدق من قال " روائح الجنّة في الشباب"
- وأنت أيضا لا زلت شابّا عمّي.أخبرني ما سبب هذه العودة بعد طول غياب
تنهّد العمّ كِنان وشبّك أصابعه ثمّ أردف:
- قصّة يطول ذكرها ولكن أتذكر ما ذكرته لك عن مقتل ابني تَيْم وزوجتي
- أجل أذكر كلّ ما رويته.
- لقد اكتشفت مؤخّرا بأنّ تيم لا يزال على قيد الحياة وأنّه في الأغلب في فلسطين. وربّما يكون ضمن جيش المقاومة لذا جئت للبحث عنه.
- أ حقّا عمّي. يا لهذا الخبر المبشر. صدّقني مضى زمن ولم أسمع أيّة بشرى قد تسرّ. على كلّ سأساعدك في التفتيش عنه حتّى تجده.
- شكرا لك ابني. أخبرني ما جديدك؟
- لا شيء يخصّ حياتي، منذ استشهاد أبي شاهين وأخي أمجد واعتقال أختي رويده التي لا نعلم عنها شيئا إلى اليوم وأنا أحاول تغطية غيابهما والتقليص من لوعة أمّي وحرقة قلبها ولكنّ النار التي بداخلها تأبى الخمود.
- هوّن عليك يا أحمد ولا تدع اليأس يستولي عليك ،انظر إلى حيث تشرق
الشمس في كل فجر جديد ، لتتعلم الدرس الذي أراد الله للناس أن يتعلموه ، إن الغروب لا يحول دون شروق مرة أخرى مع مطلع كل صبح.
- ونعم باللّه !
وفجأة طرق الباب مرّة أخرى فأعاد أحمد ذات الحركات الاحتياطية ولكنّه رأى زميليه فاستقبلهما بوجه باشر.
أحمد: - هل أحضرتما الحبر؟
قصيّ: - نعم
أحمد:- فلنبدأ بالطباعة على بركة اللّه إذن. آه تعالى لأقدّم لكما ضيفي الغالي. العمّ كِنان فلسطينيّ الدّم. هو يكبرني سنّا ومقاما ولكنّه صديق مقرّب وعزيز على قلبي منذ السنين الخوالي لمّا كنت ببيروت وكان هو هناك في المجهر بعد أن تمكّن من الهرب من سجون الصهاينة .
وائل: - مرحبا بك سيدي تشرفنا.
قصيّ: - حللت أهلا ونزلت سهلا. أنرت المحل.
كِنان: - شكرا لكما !فلتشرعوا في الطباعة الآن إذن. سأذهب كي لا أعطّلكم عن عملكم ولأسترجع بعض الذكريات وسأعود إليكم عند المغيب.
وائل: - أظنّ أنّ علينا إضافة صفحة قبل النشر
أحمد: - لماذا؟ ما الذي جرى؟
قصيّ:- لقد بلغنا للتوّ من زميلاتها أنّ جيش الاحتلال قام بأسر إحدى الطبيبات العربيّات القادمات في البعثة، واسمها مريم الحطّاب ولا نعلم إن كانت على قيد الحياة أم أنّها قد فارقتها. فقد أصابها أحد الجنود برصاصة
كِنان: - يا رب كن بعون هذه الفتاة وارحم ضعفها أين ما كانت.
وائل: - يجب أن نسيل الحبر في هذه القصّة.
أحمد: - معكم حق. فلنتصل بأحد المحرّرين إذن، أظنّ أنّ فستان الحداد قد راق هذه الأرض حتّى عشقته وأبت غيره.
كِنان: - ابني كن واثقا وتأمّل الفرج. إذا أردت لا تتّصل بالمحرّرين. مدّني بالمعلومات الكافية وسأكتب لك عن هذه الواقعة. أ نسيت أنّي كنت
صحفيّا قبل اعتقالي.
أحمد: - حسنا إذن. قصيّ مدّنا بما عندك من التفاصيل وشهادات العيان.
في المعسكر
نزلت إلى الطابق السفلي ومررت أمام زنزانات الأسرى فوقفت أمام زنزانتي التي كنت محتجزة فيها وعادت بي الذكريات إلى يوم مجيئي وتمنيت بصدق لو أعود سجينة القضبان وروحي تفيض كرامة على أن أكون شبه طليقة بنفس تفتقر إلى النخوة والشهامة والمروءة. في زنزانتي حلّت مكاني فتاة أخرى ، انحنيت على ركبتي وبادرتها:
- مرحبا! أتمنّى أن تسترجعي حرّيتك في أقرب الآجال
- ابتعدي أيتها الحقيرة من أمامي
- كلا أنت مخطئة. أنا عربية أنا لست منهم. لقد كنت مكانك منذ فترة
- أعلم ذلك ولكنهم ما تركوا سراحك وأبقوا عليك حذوهم إلا ما دمت عميلة وخائنة. بكم قرشا اشتروك.. بكم مليما بعت ذمّتك أيتها الدنيئة. سيري من أمامي رجاء فإن رؤية أمثالك تولّد في نفسي الاشمئزاز .
نهضت ولم أنبس بحرف. لم يكن بوسعي أن ألومها على قولها. طبيعيّ أن
تفكّر بتلك الطريقة. حتى إن أخبرتها بالقصّة فربّما لن تصدّقني وحتى لو صدقت فما الذي سيتغيّر لذا آثرت الصمت ومضيت فلمحت زنزانة الأطفال. مسكت قضبانها ونظرت إليهم بعينين دامعتين فرفعت رأسي إلى الأعلى وتمتمت: “ اشتروا كرامتي بكم وبعتهم ذمّتي مقابلكم. ألا يستحقّ نسمات في عمر الزهور حقّ الحياة وإن كانت رديئة! ألا يحق لهم الوجود وإن كان تعيسا!” فجأة شعرت بيد تلامس سروالي نظرت فإذا هي فتاة صغيرة تخاطبني:
- أنت الخالة التي أنقذتنا تلك المرّة أليس كذلك؟
- أجل. ما اسمك يا صغيرتي؟
- اسمي فرح
- تشرفنا وأنا ياسمين. كيف حالك يا فرح هل أنت بخير؟
- كلّا لقد اشتقت إلى أمي وأبي ومدرستي كثيرا. لم يتبق سوى أخي سعيد
- أين هو؟
- بالقفص المجاور.
- مرحبا يا سعيد.
سعيد: - أهلا بك يا آنسة كيف حالك؟
- بخير مادام بريق الطفولة لامعا بأعينكم البريئة. أخبرني كيف أتيتم إلى هنا؟
سعيد : - في يوم كنا عائدين من المدرسة أنا وفرح بلغنا منزلنا فلم نجد له أثرا.. لم نجد سوى كمّ هائل من الحطام والصخور المتناثرة حتى خيّل إلينا أننا أخطأنا الطريق والفتنا فإذا الطريق ذاته والمكان نفسه لقد تحوّل عشّنا الدافئ إلى دمار. جثة أبي كانت مردومة تحت الصخر، أشلاء أمّي كانت ممزقة بلا حراك،حتى ألعابنا طالها القصف وارتمت تبكي طفولتنا الضائعة وأحلامنا المنسيّة. ثم قبض علينا العساكر وأتوا بنا إلى هنا.
ولكن أكثر ما يزعجني هو أننا لم نعد قادرين على الذهاب للمدرسة.
فاضت عيناي الواسعتين فجأة من الدمع الذي انحدر ثم ابتسمت وسألته:
- ماذا تريد أن تكون في المستقبل؟
سعيد: - أريد أن أصبح مهندسا في صناعة الأسلحة والدبابات كي أزوّد بها المقاومة ونحرر أرضنا من براثن الاحتلال.
فرح: - وأنا أريد أن أكون صحفية كي أفضح جرائمهم
أخذ كل من الأطفال يدلي برأيه ويسرد حلمه مع أنّ أحدا لم يسأل. هناك أدركت مقدار الكبت الذي تعانيه أحلامهم واليأس الذي تشكوه آمالهم حتى أنها اندفعت تلقائيا عندما وجدت الفرصة..آمالهم كلها كانت تتعلّق بتحرير وطنهم الأسير وانتشاله من وحل الدمار الذي سقط فيه. أعمار هؤلاء الفتية بضع سنوات،بمقياس الأحاسيس دهور من المأساة اللاّمتناهية أمّا بمقياس العقول فهي قرون من النضج والرشد والإدراك . ولكنّ دهور المأساة حتما ستنقطع يوما ما وستشرق الشمس وينجلي الظلام وتنجلي سحب الصيف العابرة وأمّا قرون النضج فستثمر بالتأكيد وتؤتي أكلها عن قريب.
سعيد: - ولكننا سنبقى جهلة ولن نتمكّن من المضي في سبيل أحلامنا.
- كلاّ أنا سأعلّمكم
فرح: - كيف؟
- أعدكم بأن آتي إليكم يوميا وسأعلّمكم. لن نسمح للأسر أن يحول دون العلم.
سرّ الأطفال كثيرا ولمع بريق الأمل في أعينهم مجددا وانبعث الإشراق من ثغورهم الباسمة فأضاءوا به أنحاء المعتقل. كنت خارجة من هناك عندما خفق قلبي وتردّدت خائفة “ ماذا إن لم يسمحوا لي بذلك فأكون قد أحييت فيهم آمالا ثم قبضت لهاتها؟ ماذا إن منعوني فيكونون قد علّقوا بي أمانيَ لن يطولوها فأكسر قلوبهم مرّة أخرى وأخذلهم. ما كان عليّ أن أعدهم وأن أشعل فيهم هذا الحماس يا رب وفقني وساعدني ولا تكلني لهؤلاء المجرمين”
ومرّت ثلاث ليال استطعت فيها مزاولة تعليم الصغار الذين كانوا في قمّة الغبطة والنشوة والتهافت. تلك الليالي التي لم تخل إحداها من التفكير بذلك الشخص، جاكوب المجرم الغريب، وصرت أجهل لم علق ذكره في خيالي لهذا الحدّ. وكلّما طردت طيفه تملّكني من جديد. في الغد كنت أعلم أن مريم ستفيق من الجراحة أخيرا فلزمت المصحّة قبل طلوع الفجر ورحت أفكّر في وسيلة لخلاصها بسرعة قبل أن يعلم البقية. تفاجأت كثيرا عندما فتحت عينيها ورأتني فقد خالت أني فارقت الحياة. وسعدت بدوري كثيرا لسلامتها ومكثنا نتجاذب أطراف الحديث فرويت لها ما مررت به منذ تلك الفاجعة ثم أوصيتها أن تتظاهر بأنها لا تعرفني البتة لكي يثقوا بي.
وفجأة دخل علينا روبن وبنيامين فارتعدت فرائصي.
بنيامين: - سمعت صوتكما فيم كنتما تتحدّثان؟
- كلا...لا شيء.. كنت فقط أسألها عن هوّيتها فأخبرتني أن اسمها مريم وأنها قدمت ضمن قافلة تطوّعية لإغاثة سكان غزّة.
بنيامين: - لا جديد في ما ذكرت. قد تكونين طبيبة ناجعة ولكنك محققة فاشلة. والآن أخبرينا بما لديك أيتها الفتاة !
مريم: - أبعد يمناك عن وجهي وإلاّ قطعتها لك
بنيامين: - هذه الفتاة تذكرني بوقاحتك ياسمين.أخبريها مسبقا أنّ هذا لن يكون مفيدا. سنبدأ بالاستجواب الآن. هاتِ ما عندك بخصوص ذكرى النكسة وأخبرينا بكل جديد طوعيّا كي نخلي سبيلك.
مريم: - لا تحلم أن أخبرك بشيء أيّها الخنزير النتن.
بنيامين: - جيد! سنلجأ إلى وسائلنا إذن. أنتما الإثنان أخرجا ياسمين من هنا
- ولكنّها لا تزال مريضة. أرجوك أمهلها فجسدها لن يقوى على التعذيب الآن. رجاء انتظر ريثما تتعافى.
بنيامين: - أخرجا ياسمين في الحال.
أخذا يجرانني بينما كنت أحاول ثني بنيامين عن ما ينوي القيام به، كنت أصرخ وأتوسّل أن يمهلوها بعض الوقت هدرا. وسحني الجنديّان إلى الخارج وأغلقت الأبواب. بالداخل أبقوا على مريم أين تمّ تعذيبها بشتّى السّبل والأنواع. وبالخارج لم أكن أسمع غير الصياح والعويل. بالداخل استعملوا معها أبشع الطرق وأفضع الوسائل وقاموا باقتلاع أظافرها الواحدة تلو الأخرى . وبالخارج كانت صرخاتها تمزّق قلبي وتحرقه. بالداخل حرقوا جسدها بسجائرهم المشتعلة وصعقوها بالكهرباء ثم بالخارج أطلّوا كخنازير محتقنة. أجل هاهم يخرجون تباعا بعد أن تركوها مرميّة على الأرض تسبح في الدّماء كجثّة هامدة. فتحوا الأبواب وطلّوا وكانت دهشتي ترتسم إذ رأيت جاكوب بينهم ولم أعلم كيف دخل؟ ولا لم تفادى نظراتي وأدار وجهه ومضى؟ دخلت إلى صديقتي مسرعة ورأيت الحالة التي كانت عليها فأحسست بفؤادي ينصهر ويذوب وبقيت صامتة لا أحوّل عيني عنّها أنظر إليها نظرة غيظ وحنق شديدين. تنفست ببطء وقالت لي “ لا بأس لا تبكي أنا على ما يرام صدقيني أنا سعيدة لأنّي لم أنبس بحرف” حملتها بصعوبة ووضعتها على السّرير وشرعت في تضميد جروحها الدامية فأردَفَت في أنين “ ذلك النذل لم يكتفي بقتل زوجي وراح يعذّبني. أقسم أنّي سأجعله يذرف عوض الدموع دماء. أقسم أني سأجعله يغض أنامله قهرا وحسرة ” فسألتها: - “عن من تتحدّثين؟ ”
- ذلك الحقير المدعو جاكوب
- هل جاكوب هو من قام بتعذيبك هكذا... هل أنت متأكّدة؟..لعلّك مخطئة! - أجل هو بعينه..أعرفه جيّدا.. هو الذي احتجزك تلك المرّة.
- مستحيل ... جاكوب.. جاكوب لا يفعل هذا.. مستحيل !
- لا أفهم سرّ استغرابك إلى هذا الحدّ. في الأخير هو أحد جنود الجيش المتوحشّ يرتكب الجرائم المعتادة.
- كلاّ هو ليس متوحّشا مثلهم، جاكوب يمتلك بعض الإنسانيّة
- لا أصدّق ما تقولين!أحقا تخالين أنّ أحد عساكر بني صهيون يمتلك الرحمة والإنسانيّة أو يمتلك قلبا بالأساس؟ ذاك الذي قتل زميليك ومنهم زوجي وقتل ابن عمّك وخطيبك السابق وعذّب صديقتك للتوّ! ذاك الذي نغّص على الآلاف حياتهم وأفقدهم الراحة والسعادة! ياسمين أجننت؟
بقيت مصدومة ممّا أسمع، أظنني حقا جننت واستخف بي وصدّقت ألاعيبه الوسخة. أظنني كنت حمقاء للغاية عندما انطلت عليّ حيله الماكرة. مشيت في الممرّ وقصدت غرفتي ففتحت خزانتي وأخرجت منها السكّين المخبّأ في أعلى الدرج بين الثياب والدّموع تنحدر على وجنتاي والحرقة تشتعل في صدري وذهبت إلى مكتب جاكوب فلم أجده. سألت عنه الحارس فأخبرني أنّه يستريح بغرفته. فقصدتها وفتحت باب الغرفة فجأة وكان مستلقيا على السرير. رفع رأسه فنظر إليّ ثم عاد إلى وضعيّته الأولى وقال: “ للمرّة الأخيرة. لا تدخلي عليّ تارة أخرى بدون استئذان. ما بك؟ ماذا تريدين؟ ” صمتت وكنت أرتجف ولم أدر ما أفعل. كان قلبي ينبض بشدّة كلّما التقينا حتّى عندما كان يدرّبني ويقسو عليّ. أصبح خفقان قلبي عند رؤيته أمرا بديهيّا ولكنه نبض أكثر من العادة هذه المرّة. بُهت لصمتي فنهض من مكانه وقدم إليّ وعندما لاحظ نهر الدّموع الجارف من عيني تعجب واستفسر ثانية “ما بك؟ لم تبكين؟ هل تعرّض لك أحدهم؟ هل اقترب منك أبراهام ثانية؟ ماذا دهاك ياسمين ما خطبك؟ كفي عن البكاء وانبسي! ”
لم يكن منّي إلا أن رفعت يدي وصفعته على وجهه بيدي المرتعشة ثم
صدحت “ يا لك من نذل حقير. كيف تمكّنت من خداعي طيلة هذه الفترة. وثقت بك أحيانا وظننت أنّك أقلّهم شرّا ومكرا وجعلتني أحسب أن بك شيئا من الرحمة والإنسانية لأكتشف في الأخير أنّك لا تفرق عنهم قيد أنملة! أخبرني كم شخصا قتلتم؟ وكم بيتا هدّمتم؟ وكم أناسا شردتم؟ وكم طفلا صغيرا يتّمتم؟ وكم عرضا انتهكتم؟وكم امرأة فتاة اغتصبتم؟ وكم امرأة رمّلتم؟وكم شابا أسرتم؟ وكم أسيرا عذّبتم؟ وكم قلب أمّ ثكلى حرقتم؟ أجبني، كم جامعا دنّستم؟ وكم كنيسة دمّرتم؟ وكم مصحفا وكم إنجيلا مزّقتم؟ أخبرني، لم تقتلون الأبرياء ولا يحرّك لكم جفن واحد؟ ألم يكن كافيا أن تنهبوا خيراتهم وتأخذوا حقوقهم وتنتزعوا منهم أرضهم وتحرموهم قدسهم؟ لم جعلتموني شيطانا أخرس وصنعتم منّي لعبة بين أيديكم؟ أنتم تقتّلون الأبرياء وأنا أداوي مرضاكم. أنتم تذّبحون المستضعفين وأنا أعالج جرحاكم من أجل حياة أطفال أعلم مسبقا بأن عديمي الوجدان من أمثالكم سيقتلونهم في نهاية المطاف لا محالة. اليوم أتقنت بأن لا مجال لوجود إنسان بقلب ووجدان بينكم وأن إكرامكم يكمن في قتلكم وليشفى غليلي ستموت على يدي ”
أخذت السكّين وحاولت الإمساك بها رغم ارتعاش يميني وارتعاد فرائصي ونبضات قلبي المدوّية. اقتربت منه كثيرا حتى حشرته بيني وبين الحائط وقرّبت السكّين منه فعجزت ولم أستطع وانتصر دمعي المتهاطل في محاولة
سخيفة لدفعه إلى الدّاخل وسقط السكّين على الأرض فالتقطه جاكوب ووجّهه نحوي فرُحت أعود إلى الوراء بينما كان يتقدّم نحوي حتى أسرني بين صدره والحائط المقابل ثمّ رمى بالسكّين جانبا وصرخ “ لمَ لمْ تفعليها؟ ” ومسكته من مئزره حينها وصرخت بدوري “ ولم لم تفعلها؟ ليتك فعلتها وخلّصتني .” وارتجفت أوصالي وتحجّرت دموعي في مقلتي وانكفأت إلى الدّاخل فأجابني حينها : “ لا أنوي أن أكون سينوز ”
بتّ تلك الليلة في يقظة أجلس على حافة نافذتي أتأمّل سواد الليل الهادئ وبداخلي بركان يكاد أن ينفجر . لم أجد تفسيرا لما حدث معي سوى أنني وقعت في شراكه اللعين. أظنّ أنّ مسرحيّة تظاهري بالصرامة والقوّة قد كشفت اليوم أمامه وحتّى أمام نفسي. لقد تأكّدت اليوم أنّي جدّ ضعيفة أمام الحب عاجزة إزاء العشق فاقدة القوى. تعلّمت اليوم أنّ أسر السجن وظلمته أهون على المرء ألف مرّة من أسر القلب والروح والوجدان خاصة إذا كان هذا القلب أسيرا لعشق عاقّ أشبه بالخطيئة والجريمة الكبرى في حقّي وحقّ قضيّتي ومبادئي. جاكوب رمى بكل تلك الأسس التي بنيت عليها شخصيّتي وتمكّن من تربّع عرش فؤادي وبسط نفوذه الكامل على مملكتي. وشرعت أسترجع ما مضى منذ دخلت هذا المعسكر إلى آخر كلمة نطق بها جاكوب فلم أفهم قصده. ماذا عنى بــ “ لا أنوي أن أكون سينوز” ؟
من هو سينوز؟ وماذا كان يقصد؟
أمّا هو فقد عاد متأخّرا جدّا إلى منزله ليتفاجأ بأنّها ليلة ذكرى زواجه التي
مكثت ميريكا تعدّ لها الكثير في حين كانت شبه ممحاة من مخيّلته. دخل فوجد الشموع مطفأة والصحون ملقاة على الأرض. ولج غرفة نومه ليشرع في تقديم أعذاره المعتادة فاستقبلته بعينين دامعتين قد سال الكحل منهما وكلمات انبثقت من حنجرتها بغصّة وأسى “ أرجوك لا تبدأ السمفونية المعتادة فلقد حفظتها. لقد سئمت أعذارك البالية ومللت مبرّراتك السخيفة وبرمت بحججك التافهة” وما كاد يفتح فاه حتّى أومأت إليه بيدها أن يسكت واضعة سبّابتها على فمها ثم همست بصوت خافت: “ أرجوك غادر بهدوء ” . لم يجد جاكوب حلّا سوى الاستجابة لطلبها خاصّة وأنها لم تكن المرّة الأولى التي يسهى فيها عن مواعيد ميريكا المقدّسة كأعياد الميلاد والزواج والحبّ وغيرها..
ومع استبانة الصبح الجديد وانكشاف شمسه كان لا بدّ لي أن أجد وسيلة لخلاص مريم العالقة بين القضبان. كنت أمرّ أمام مكتب بنيامين لمّا سمعت روبن يتحدّث منفعلا حردانا “ لقد زاد به الكبر يا سيّدي” فاقتربت من
الباب. ووضعت أذني عند الثقب.
روبن: - كيف يتجرأ ويعصي الأوامر يا سيّدي.
بنيامين: - لماذا ما الذي فعله؟
روبن: - أمرت أحد العساكر أن يستلب شرف تلك الأسيرة فمنعه.
بنيامين: - لقد أخفتني، ظننت الأمر مهمّا. هذا بديهيّ بالنسبة لجاكوب.
روبن: - كيف هذا يا سيّدي؟!
بنيامين: - جاكوب يرفض دائما المهام من هذا القبيل ويكره هذا النوع من العقوبات لذا لن يسلّطها على أحد يومًا. يكاد الأمر يكون محسوما لديه.
روبن: - وما السبب..؟! عفوا إن كثرت تساؤلاتي ولكنّ الأمر يستلزم التعجّب.
بنيامين: - لأن أختي -أي والدته- اغتصبت أمام عينيه عندما كان طفلا صغيرا فضل مشهدها ينخر ذاكرته طيلة هذه السنين.
روبن: - هل الفلسطينيّون هم من فعلوا ذلك؟
بنيامين: - ههههه يمكنك أن تقول أنهم فعلوها إن أردت.
روبن: - أستسمحك يا سيّدي بيد أنّني لم أفهم
بنيامين: - منذ...
فجأة رأيت أحد الجنود يقترب فلم أستطع أن أسمع البقيّة واضطررت إلى الذهاب بينما ظل فكري أسيرا لما سمعته منذ قليل. دخلت غرفة المستشفى لأذهب إلى مريم فلم أجد لها أثرا. تفاجأت ورحت أبحث عنها بكل الغرف فلم أعثر عليها ووقفت عند طبيب أسأله: “ تلك الفتاة التي كانت هنا أين هي؟ ” فقال أنّه لا يعلم. واعترضتني ممرّضة فأعقت طريقها وطرحت عليها نفس السؤال فأجابت “أخذها الجنود منذ السّاعات الأولى لهذا اليوم. سمعتهم يقولون لها بأنّ حياتها قد انتهت وبأنّهم سيأخذونها لتموت ”
عندئذ خيّل إليّ أنّني وقعت في بئر لا يسبر له غور، وشعرت بقلبي يدقّ بعنف، وأحسست بمغص في بطني، وبرجليّ قد انفصلتا عنّي كما لو أنّ قنبلة مزّقتني إلى أجزاء صغيرة متناثرة. فركضت نحو مكتب بنيامين وقد كان في اجتماع مغلق فما إن رآني حتّى أمرني بالخروج ولكنّي تمسّكت بالبقاء وسألته: “ أين أخذتم مريم؟ ” فقال لي بسخرية بالغة: “ أخذناها إلى عالم الأرواح. أ تريدين زيارتها؟ ” ثم انخرط في نوبة ضحك وقهقهة متسلسلة فصرخت فيه واليأس يكاد يحطّمني “لماذا؟ ألا يكفي أنّكم عذّبتموها؟ لم لا تتركونها وشأنها؟ ” نظر إلى الجالسين ثم استنبأ: “ هلّا أجاب أحدكم عن سؤال الآنسة الجميلة؟ لم لا نتركها وشأنها فحسب؟ ” أحسست أنّي تحوّلت إلى أضحوكة بالنسبة لهم خاصّة عندما ردّ أحدهم: “ لأنّنا ببساطة ننتعش مع كل روح عربيّة تزهق” وأضاف آخر “ ولأنّنا إن تركناها ستلجأ ربّما إلى منظّمات حقوقيّة وتجلب لنا مشاكل نحن في غنًى عنها ” ثم ختم أخيرهم “ فلتعلمي أنّ لا عربيّا يدخل هذا المكان ويغادره سالما ناجيا. ”
لم أستطع تحمّل المزيد من الإهانات فخرجت والدّموع تملأ عيناي والغضب يستولي عليّ . عجزت حينها حتّى عن التفكير في ما يمكن لي أن أفعله كي أتثبّت من الخبر ووقفت في أحد الممرّات خاضعة مُهانة أذرف دموع الأسى وقد بدأ التصديق بأنّ مريم قد استشهدت يعرف إلى قلبي طريقا. وفجأة جاءني أحد العساكر مناديا: “ دكتورة، الرائد جاكوب يأمرك بالخروج لدى البوّابة الخلفيّة من جهة المستودع. سأصحبك لأدلّك على الطريق ” استفزّ الجنديّ أعصابي فصرخت فيه مباشرة : “ أخبر رائدك أنّي لا أريد رؤية وجهه ولا وجه أي نذل حقير منكم. اللّعنة عليكم جميعا ما أحقركم من عبيد وأنجاس” لفحت قلب الجنديّ هبّة من انفعال شديد حتّى رفع متنه ليصفعني لو لم يظهر جاكوب في الحال ويأمره بأن يدعني ثم تقدّم ذاك الأخير نحوي وأخذ يجرّني من يدي ويسحبني غصبا عنّي بينما كنت أقاوم وأدوّي صاخبة بأن يتركني فلمّا أبى حاولت الإفلات ولوي ذراعه ورغم أنني استعملت أقصى قواي إلا أنّه لم يتألّم على ما يبدو فقد رمقني بنظرة ساخرة ثم أردف ضاحكا “ جيد! أفضل بكثير من ذي قبل. على الأقل لم تذهب تدريباتي لك طيلة هذه الفترة هدرا.ولكنّك لم تبلغي بعد المستوى المطلوب. هيّا تحرّكي” وسحبني من يدي إلى الأمام حتّى خرجنا من جهة المستودع إلى الباب الخلفيّ ثم أركبني سيّارته وانطلق. كنت أسأله بإلحاح عن المكان الذي سيأخذني إليه وتملّكت منّي الهواجس حتّى ارتعبت علاوة على طيف مريم الذي يرفض مفارقتي ولو لثوانٍ وفجأة سألني
- هل تثقين بي؟
- لماذا تسأل؟
- أريد فقط أن أعرف؟
- ألم تقل في أوّل تدريب لي منذ أشهر، يوم دفعتني لأسقط ثمّ مددت لي يدك لأستند عليك فما إن قرّبت يدي حتى أغلقت أنت كفّك وأفلتّ ذراعك أنّ أوّل درس لي هو أن لا أثق بأحد أبدا.
- صحيح. ربّما قلت هذا لأنّه في ذلك الحين لم يكن هناك من يهتمّ لسلامتك. ولكنّي أسألك الآن.
- كلّا. لا أثق بك البتّة. وكيف لي أن أستوثق قاتل وأستأمنه؟
- هل تعلمين أنّي قتلت ثلاثة رجال قبل قليل؟
- افتخارك بالقتل سينقلب حسرة وندما يوما ما. عموما لم يعد الاستماع إلى جرائمك يثير في نفسي استغرابا فقد عهدتك وانتهى الأمر.
- كلّا. سيثير فيك الكثير من التعجّب والاستغراب حتّى أنّك قد لا تصدّقي، حتّى أنّني أنا نفسي لا أصدّق حتّى الآن ما فعلت! ولا أعرف لماذا فعلت!
- ما الذي تعنيه؟ لماذا توقّفت؟
- انزلي ها قد وصلنا؟
- ما هذا المكان؟ لم نحن هنا؟ جاكوب ما الأمر؟
- اهدئي لا تخافي لن ألحق بك أيّة ضرر تعالي معي.
- المكان هنا بارد جدّ ولكن لم أتيت بي إلى هذا المستود.. من؟ مريم؟ مستحيل! عزيزتي مريم هل أنت بخير؟ هل أصابك مكروه ما؟ الحمد لله على سلامتك. آه لك الحمد يا ربّي. أخبريني كيف نجوت؟
جاكوب : - سأنتظركما في الخارج
مريم : - أنا بخير . جاكوب هو الذي أنقذني.
- ماذا؟ أ حقّا ما تقولين! آه يا إلاهي أكان فعلا..
مريم : - لم تضاعفت سعادتك كثيرا عندما علمت بأنه من أنقذني؟
- آه كلّا كلّ ما في الأمر أنّني اكتشفت أنّ حدسي كان صائبا. لقد أحسست منذ البداية بأنّ في قلبه شيء من الرأفة وبأنّه ليس عديم الضمير مثل البقيّة.
مريم : - هل وثقت به بهذه السّهولة؟ ياسمين استفيقي حتّى لو صدق هذه المرّة ولأسباب غامضة لا أحد منّا يعرفها، فذاك لا يساوي قطرة من مقدار الدم الذي سفكه ولا يعادل ذرّة من تربة الأرض التي دنّسها. هذا لن يشفع له أبدا أعماله الوحشيّة وقتله للأبرياء. إن كنت قد استغنيت عن حقّ سليم فإنّ الثأر لطارق سيبقى دينا عليّ إلى النهاية.
- مريم لم تخاطبينني بهذه الطريقة الحادّة؟
مريم : - لأنّني بتّ لا أفهمك. كيف تميلين إلى إسرائيلي مجرم وتغرمين به ؟
في تلك الأثناء كان أحد الملازمين قد اقتحم ذلك الاجتماع المغلق في المعسكر لخطب ضروري وفي يده نسخ صادحا بصوت مضطرب:
الملازم: - سيّدي. عذرا للمقاطعة ولكنّ الأمور ليست على ما يرام.
روبن: - ما الأمر؟
الملازم : - مجموعة شباب إرهابيين أصدروا جريدة ليلة أمس واليوم يقومون بتوزيعها. وسمعنا بعض المحطات التلفزيّة الغربيّة والعالميّة قد بدأت تعنى بهذا الأمر وتنقل ما في الصحيفة من أخبار لا تخدم مصلحتنا. والمشكلة أنّ بعضها مرفقة بصور والأدلّة.
بنيامين: - اللّعنة عليكم جميعا ما أغباكم اللّعنة عليكم ! كم جاسوسا زرعنا هناك وكم ثكنة للمراقبة أرسينا؟ لمَ لمْ تتفطّنوا إلى الأمر سابقا.
طأطأ الملازم رأسه خزيا. فاقتلع بنيامين نسخ الجريدة من يده وأمره بالانصراف. ثمّ راح يتصفّح الجريدة بعنف متمتما " كالعادة. يستعملون الأسماء المزيّفة. علينا وضع خطّة على الفور لمحاولة إيجادهم"
جوزيف : - في البداية دعني أجري اتّصالات كي ينكسر صدى هذه الصحيفة في القنوات.
بنيامين: - أجل، مرهم فليوقفوا الحديث عنها على الفور. اختلقوا أيّة قضيّة أخرى واشغلوا الرأي العام بها في الوقت الراهن.
روبن: - سيّدي، أليست هذه صورة تلك الأسيرة. تلك التي بعثنا بها إلى الموت منذ سويعات، مريم على ما أظن !
بنيامين: - أجل، هي بعينها. " طبيبة متطوّعة تقع في أسر براثن الصهاينة " يحاولون جلب الاستعطاف من خلال العناوين المبهرجة والصّور البريئة ليتهم يجرؤون على ذكر أسمائهم ! من كاتب هذا المقال؟
روبن: - كتب في الأسفل بقلم " نانك"
بنيامين: - حسنا إذن ! لنرى إلى أيّ حدّ سيصمد هؤلاء التافهين !
وعادت مريم فجأة إلى طرح سؤالها من جديد بعد أن صمتت للوهلة الأولى
مريم : - كيف تميلين إلى إسرائيلي مجرم وتغرمين به ؟
- لست مغرمة به إطلاقا مريم كفاك ادعاءات سخيفة!
مريم : - لست بذاك القدر من الغباء ياسمين كفاك تبريرات واهمة. نظراتك، ابتساماتك، ارتعاش صوتك وأنت تنطقين اسمه لا تدلّ إلا على أنّك قد شغفت به تماما وأنّك صرت منساقة إلى هوى نفسك الذي سيجرّك نحو الهاوية ويقترب بك إلى الهلاك. حبّك هذا جريمة للأسف ياسمين. حبّك وإن لم يكن خيارا فهو خيانة للقضيّة بأكملها. حبّك عشق عصيّ عاقّ.
- دعينا من هذا الآن واخبريني كيف تمكّنت من النّفاذ؟
مريم : - كنت بالمستشفى عندما قدموا إليّ وأخذوني إلى غرفة التحقيق. حينها أمروا أحد العساكر أن يفعل بي ما يحلو له فتصدّى له جاكوب في المرّة الأولى ثم جاءت التعليمات بأن يتخلّصوا منّي خارج المعسكر وأن يلقوا بجثّتي من أعلى الجبال. وضعوني في سيّارة وأتى بي ثلاثة رجال إلى الجبل القريب من هذا المستودع فأنزلوني ثم استعدّوا لإطلاق النّار عليّ. أغمضت عيناي وخلت أنّها النهاية حتّى سمعت صوت ثلاث طرقات متتالية. ثم فتحت عيناي لأكتشف أنّني لا زلت على قيد الحياة وإذ بي ألمح جاكوب يقف أمام سيّارته وفي يده سلاح وجميع الجنود الثلاثة مرتمون على الأرض جثثا هامدة. ثم اصطحبني إلى هذا المكان.
- إذن كان روبن يتحدّث عنك لمّا قدم ليشي بجاكوب لتصدّيه لاغتصابك . على كلّ ما العمل الآن؟
مريم : - أريد الرجوع إلى غزّة
- فلنخبر جاكوب علّه يجد لك مخرجا. هيّا لنخرج ! جاكوب، مريم تريد العودة إلى قطاع غزّة.
جاكوب : - هذا مستحيل لن تتمكّن من العبور إلى هناك. إذا اقتربت من المعبر ستنكشف اللعبة وسيعلمون بأنّك على قيد الحياة.
- ما الحلّ إذن؟
جاكوب : - أمامها تركيا وسوريا. فلتختر إحداهما
- مريم ما رأيك؟
مريم: - مستحيل! لغير غزّة لن أذهب. لقد أتيت في مهمّة وعليّ إكمالها.
- ولكنّك لن تستطيعي العبور لذا لتذهبي إلى تركيا وأعدّي هويّة جديدة ثم عودي.
مريم: - أريدك في كلمة على انفراد.
جاكوب: - لا تتأخّرا.
- حسنا.
مريم : - ياسمين هذه فرصتك لم لا تهربين معي؟ هيّا فلنذهب سويّا.
- لا أستطيع.
مريم: - لماذا؟ ألم تأت من أجل الفلسطينيين؟ ألم تجيئي لمساعدتهم ومداواة جروحهم. أم أنّ الرفاهيّة مع بني صهيون قد راقتك؟
- مريم أرجوك كفى إن كان هذا اتّهاما فهو جدّ جائر وظالم وإن كان مزاحا فهو جدّ ثقيل ومزعج. أرجوك كفاك تجريحا وإهانة لكرامتي.
مريم : - آسفة. صدّقيني لا أقصد ذلك ولكني لا أفهم لم لا تهربين معي؟
- لأنّي لا أستطيع أن أضحّيَ بحياة الأطفال حتّى لو كانوا سيقتلونهم يوما ما فإنّ ذرّة الأمل التي في يدي لن أرمي بها وأمضي في سبيلي. لقد كبّلوني يا مريم وتفنّنوا في اختيار الأغلال. ولكنّي سأرجع إليك ذات يوم وسنلتقي في غزّة بإذن اللّه. هذا وعد !
مريم : - ما دمت قد وعدتني بالعودة فعديني بشيء أهمّ ، عديني بأن تبتعدي عن هذا المجرم أرجوك ولا تنخدعي لألاعيبه القذرة.
- مريم أرجوك صدّقي أنّه مختلف عنهم بعض الشيء أعلم أنّ جميعهم أنذال ووحوش تختبئ في هياكل بشريّة وأنهم عديمو الشرف وفاقدو النخوة والضمير ولكنّه يختلف عنهم. لست أدافع عن جرائمه ولكنّي أشعر أنّ بداخله أمر ما يجبره على فعل ذلك .
مريم: - ستثبت لك الأيام أنّك مخطئة
- سيشهد المستقبل أنّي محقّة.
وقفت السيّارة أمام الحدود وراحت مريم تعانقني ثم طلبت منّي أن أكون حذرة وأن أواصل تعليم الأطفال كما أعلمتني بأنّها ستسعى إلى الوصول إلى الجمعيّات الحقوقيّة لتقدّم شكاوى بحجم الانتهاكات والتعذيب الممنهج في السجون والمعسكرات ثم انتهت لحظات الوداع وعدت أنا وجاكوب أدراجنا.
خلال الطّريق كان واضحا أنّ لديّ الكثير لأقوله ولكنّ لساني بدا منعقدا في البداية ثم ما لبث أن تنقّض: “ حسنا! جاكوب... آه..لا أعلم ما سأقوله أو ما يجدر قوله في موقف كهذا. أنا فقط شكورة لك على صنيعك” أدار نظره تجاهي ثم حوّله إلى الوجهة الأخرى : “ انسي الأمر واحرصي أن يبقى سرّا ”
أومأت له بالموافقة وبقينا في صمت رهيب حتّى وصلنا. نزلت من السيّارة ولكنه لم يفعل ولعلّه فقه سؤالي الذي لم أنطق به فأجاب: “ لن أدخل معك. أختي سيلا ستعود اليوم. سأذهب لاستقبالها في المطار.”
مضيت إلى المعسكر فلقيت روبن عند الباب وسرعان ما استفسر:
روبن : - أين كنتما؟
- طلبت من الرائد جاكوب أن يصطحبني إلى صيدليّة لاقتناء بعض الأدوية الناقصة.
روبن : - ولم يداك فارغتان إذن؟
- لأنّ الصيدليّة كانت مغلقة وجاكوب قال أنّ لديه عمل يقوم به لذا أـمرني أن أبعث بمن يشتري هذه المستلزمات.
روبن : - هكذا إذن. جيّد! في المرّة القادمة ناولي قائمة حاجياتك للمسؤول عن هذه الأمور في المعسكر.
وفجأة أقبل أحد الملازمين مضطربا:
يتبع
لم يستطع إيتان تمالك أعصابه فرفع يده عاليا وصفع بكفه وجهي بقوة حتى تفطرت وجنتاي وتشققت شفتاي وسال منهما الدم فدمعت عيناي من الألم ولكني كنت مصرّة على الظهور في هيأة الفتاة القوية التي لا تخشى شيئا فتماسكت ورسمت ابتسامة مصطنعة ثم أردفت: “ سحقا لك. يالك من كائن ضعيف تحجب ضعفك وتغطي عجزك بالعنف. أنت حقا مثير للشفقة ” رفع حينها يده ليلطمني ثانية لولا أن طرق الباب فأنزل يده وسمح للطارق بالدخول فتقدم أحد العساكر وقال: “ احترامي سيدي ، العميد روبن يطلبك في مكتبه حالا رفقة الطبيبة ” فأومأ إليه جاكوب بأنه سيفعل وأمسك يداي المكبلتان ومضى بي إلى هناك قائلا:
-كثيرون هم من دخلوا بلسان وقح كهذا الذي عندك وسرعان ما أصبحوا قططا بل هررة ناعمة وستصبحين منهم عن قريب.
- ولو كان جميع من دخل هنا قد تغير وصار حملا وديعا فتأكد بأني سأكون ذلك الثور الغاضب الثائر بمجرد رؤية وجوه كذاك الذي عندك.
دخلنا مكتب روبن فقام من مكانه ورحب بجاكوب قائلا :
روبن: -أبديت نجاحك ككل مرة. تهانينا جاكوب
جاكوب: - شكرا سيّدي العميد.
روبن: - ولكني أعيب عليك معاملتك لطبيبتنا الفاتنة والمجتهدة بهذه القسوة! أطلق يديها فنحن لا نعامل أطباءنا بهذه الطريقة وخاصة الجميلات من أمثالها
- انزع يدك عن وجهي ولا تقل أني طبيبتكم حتى لا تثير شفقتي مجدّدا
روبن: - لا..لا..لا،هكذا سأغضب منك فاحذري غضب الهادئ. أنت من اليوم صرت طبيبة الجيش الإسرائيلي.
- ههههه، غريب حقّا. لا يظهر على محياك كل هذا الغباء. ألا تسمع؟ أخبرتك بأني لن أفعل هل أعيدها مرة أخرى؟
روبن: - الأمر لم يعد خيارا لك عزيزتي. ستكونين مجبورة على فعل هذا والليلة ستقومين بعملية للوائنا بنيامين.
- أظنّ أن روح الدعابة عالية لديك، كيف صوّر لك خيالك أني سأنقذ شخصا لو كان بيدي سلاح لقتلته في اليوم ألف مرة، تريد مني إنقاذ ذلك الوحش يا إلاهي هذا حقا مضحك ! بت في حيرة من أمركم كيف صورت لكم أنفسكم وألهمكم خيالكم أني سأعالج ذلك النذل الذي ارتكب المجازر وانتهك الحرمات أتعرف كم شخـ...
احمر وجه روبن فجأة وتصاعد الدم في عروقه ثم مسك وجهي وراح يضغط على فكّي والشرر يتطاير من عينيه ثم جلجل: ” اعرفي حدودك جيدا ولا تتمادي ” عاد إلى مكتبه فرفع السماعة وأجرى مكالمة ولم تمر ثواني حتى حضر الجنود رفقة الأطفال الأسرى الذين لمحتهم في السجن منذ قليل واصطف الأطفال وانتصب الجنود أمامهم رافعين أسلحتهم في وجوههم وبعض الصغار يبكون ويستغيثون من شدة الذعر حتى تعرّقوا وارتجفت أطرافهم. صغار لا يتجاوز عمر أكبرهم العاشرة. أحسست بالاختناق وضيق التّنفس وكأن شراييني قد تصلبت وتملّكني الدوار واختلّ توازني وثقل رأسي حتّى أصبحت لا أستطيع حمله وشعرت بالحزن حتى تحجّرت دموعي في مقلتي وانكفأت إلى الدّاخل فقد فهمت الرهان الذي وضحه روبن صادحا: ” اختاري أما أن تجري العملية الليلة وتنقذي حياته وإمّا سيموت هؤلاء نصب عينيك الآن ” انتابني صمت عميق، شرود وذهول غريبين فلا استغاثة أطفال في عمر الزهور تسمح بتجاهلهم ولا ضميري وكرامتي يبيحان لي مداواة شيطان من الإنس. وتشابكت الأفكار في رأسي فقيّدتني وكبّلتني وشلّت حركتي وجعلتني سجينة حيرة أخذت تنهش عقلي.
وأشار روبن إلى جنوده فاستعدوا ووضعوا أصابعهم على الزناد فصمدت وتحاملت على نفسي وفككت قيودي ولم أجد أخف ضررا من القبول فلما سمع ذلك مني أمرهم بإعادة الأطفال إلى أماكنهم وأنا أقبع مع نفسي أحاورها في حزن ثم نادى روبن مساعده أبراهام ليأخذني إلى المستشفى العسكري المتصل بالمعسكر حتى أستطلع حالة السقيم وقال أنه سيلحق بنا بعد قليل. وجرني كلبه الوغد إلى الخارج ـ وقد لفحت قلبي هبّة من انفعال شديد فاستولت عليّ حالة مريرة ملوّثة بالغضب وغمرني جوّ مشبع بالحقد.
جاكوب: - سيدي كيف تثق بأن بإمكانها مداواته ماذا إن لم تستطع؟
روبن: - كي يعيش الزعيم فلا بدّ أن يخضع لعملية لإصلاح تمزق في شريان الأورطي للقلب وللأسف تعتبر هذه الجراحة من أكثر العمليات المستصعبة والدقيقة للغاية ولم يتمكن من إجرائها إلى الآن سوى اثنان. الأول هو الدكتور بيتر فردريك أستاذ تلك الفتاة في أمريكا والذي توفي منذ أشهر.
والثاني هي هذه اللئيمة الوقحة. جاكوب تأكد أنها ستكون مكسبا كبيرا لنا وأظن أننا بنو إسرائيل وشعب الله المختار أحق ببارعة مثلها. وستكون أنت المسؤول عنها منذ اليوم .
جاكوب: - حاضر سيدي عن إذنك
روبن: - جاكوب! بمجرد أن يستفيق الجنرال بنيامين سيعلي من شأنك كثيرا نظرا لأنك صهره أوّلا والسبب في إنقاذه ثانيا. سيكون شفاؤه لصالحك.
خرج جاكوب ولم يعره اهتماما. دخل مكتبه فتفاجأ بوجود امرأة بيضاء البشرة شقراء الشعر جالسة في انتظاره
جاكوب: - ميريكا، ما الذي جاء بك إلى هنا؟
ميريكا: - اشتقت إليك كثيرا حبيبي.
جاكوب: - ميريكا أنا مشغول الآن، أجلي البوح بمشاعرك لوقت لاحق.
ميريكا: - بتّ تتهرب كعادتك! على كل لا تهتم لم آتي من أجلك. جئت لأتأكد من الخبر. أحقا عثرت على طبيبة مناسبة لتقوم بجراحة أبي؟
جاكوب: - أجل. سيخضع للعملية بعد قليل.
ميريكا: - إذن فلنذهب إلى هناك سويا. أريد أن أحضر العملية.
في غزة بات جميع أصدقائي على أثر تلك الفاجعة، فقدوا أربعة منهم فجأة وفي آن واحد. اثنان منها استشهدا واثنان لا خبر عنهما ولا يعرفون لهما سبيلا. وما عمق آلامهم وضاعف أحزانهم إلا حالة الفلسطينيين. هناك، حيث عمّ المشفى بالجثث والجرحى مع تواصل القصف حتى عجز الأطباء على كثرتهم على تغطية حجم الضحايا. كان الوضع صعبا في القطاع مع تشديد الحصار لدرجة انقطاع الكهرباء واللجوء إلى المولدات الكهربائية. منعوا عنهم الأسلحة والأدوية وحتى المواد الغذائية فلا وجد الأهالي ما يطعمهم من جوع ولا ما يؤمّنهم من خوف حتى أصبحت حياتهم أشبه بالجحيم. نار تلك الجحيم كانت تشتعل في فؤادي وأنا أقف أمام المساعدين أشرح لهم ما سنقوم بفعله من تخدير المريض وتحضير للعملية. ثم البدء بالجراحة و كيف تتمثل في فتحة في الصدر حيث يتم قص عظمة القص منتصف الصدر طوليا ويتم فتحها بجهاز معين يفتح الصدر طوليا حوالي 15 سم إلى 20 سم ويوسع القفص الصدري بجهاز معين لنتمكن من الوصول إلى غشاء التامور المغلف للقلب حيث يتم فتحة للوصول إلى القلب ويظهر أمامنا القلب والشرايين الخارجة منه ويتم معاينة المجال الجراحي ثم تبدأ مرحلة وصل الدورة الدموية الاصطناعية حيث يتم تحويل دم المريض كاملا" إلى جهاز معين أسمه القلب والرئة الاصطناعية أين يتم هناك أكسدة الدم وضخه للمريض أثناء توقف القلب. بعد وصل الدورة الدموية الاصطناعية والبدء باستخدامها وفصل الدورة الدموية الطبيعية. يتم توقيف القلب عن العمل بواسطة محلول معين وظيفته شل عضلة القلب وحمايتها أثناء توقف القلب لأجراء العملية المطلوبة لإصلاح التمزق في الشريان الأورطي للقلب .
كان سقف الغرفة بلوريا بطريقة تسمح للراغب في المشاهدة أن يرى كل ما يحدث نصب عينيه من الأعلى وقد صممت خصّيصا لجراحات القادة والشخصيات المفصلية في إسرائيل. رفعت رأسي إلى الأعلى فرأيتهم قد اجتمعوا جميعا ليشهدوا إنقاذ زعيمهم وإبادة طبّي وإفناء إنسانيتي. أحضروا لي سمّاعة أُذُن تربطني بجاكوب الذي كان من جملة الجالسين صحبة زوجته ميريكا. والذي أشار لي أن أبدأ مهددا إياّي بأن العملية إذا فشلت فحياة الأطفال ستنقضي على الفور. ووقفت بارتباك شديد وجسد مرتعش ثم باشرت العملية فخيم الهدوء على الغرفة ولم يُسمع فيها غير كلماتي المتتالية: ” مشرط... مقبض.. مقص..ملقط... ” وتواصلت الجراحة مطوّلة شاقة. وفجأة انقطعت عن العمل فبهت الجميع ومكثوا ينتظرون مني أن أكمل فلم أفعل. حينها صدح جاكوب : لم توقفت؟ ما بك؟
- لن أكمل العملية إلا إذا أخبرتني ماذا حل بسليم فورا.
- ياسمين واصلي عملك وإلا مات الأطفال أمامك الآن.
- إن قتلتموهم فزعيمكم أيضا ميت لا محالة .
- ياسمين لا تتحديني وأكملي الجراحة وإلا ستخسرين.
- وزعيمكم المفدّى سيخسر أيضا، سيفقد حياته للأبد. لن أكمل قبل أن تخبرني بمكانه.
توتر جاكوب كثيرا وشعر أنه تحاصر من كل الجهات فقال:
- حسنا أكملي وسأخبرك فور الانتهاء من الجراحة.
- ما الذي يضمن لي صدق حقير مثلك؟
- ياسمين أنا أعدك بهذا أمام الجميع هيا واصلي العملية.
- سأصدقك هذه المرة مع أني أعلم أنك من الذين إذا وعدوا أخلفوا وإذا اؤتمنوا خانوا وإذا حدثوا كذبوا.
روبن: - هل تريد هذه اللعينة أن نفصل رأسها عن جسدها فتكون عبرة لغيرها أم ماذا؟
جاكوب: - ستكمل الآن. كن هادئا سيدي.
استأنفت العملية حتى فرغت منها وتركت لأطبائهم إخاطة الجرح ومضيت. نزعت ثياب العملية والكمامة عن وجهي وغسلت يداي ثم صعدت إلى الأعلى فسألوا لمَ لمْ يستفق بعد فأكّدت لهم أنه بحاجة إلى سويعات من الراحة كي يستفيق ولكن العملية قد نجحت. فرحوا جميعا وتهافتوا بهذا الخبر أو تظاهروا بذلك إن صحّ التعبير وتهلل وجه ميريكا سرورا وانشراحا وتسارعت إلى أحضان جاكوب لترتمي فيها، ثم نزلت إلى الأسفل لتطمئن على والدها وغادر بقية القادة بين مسرور لحياة بنيامين وتعيس لخيبة أمله في الظفر بمكانة هذا الأخير . ولم يبق في الأعلى غير جاكوب وأنا. نظرت إليه فترجم نظراتي وذهب إلى طرف القاعة يجري اتصالا. وبعد لحظات دخل علينا أبراهام بكيس أسود في يده سلّمه لجاكوب ثم خرج. فتقدم مني هذا الأخير وألقى بذاك الكيس على الأرض قائلا :“ ها قد وفيت بوعدي ”
انحنيت ورفعت ذلك الكيس ثم فتحته وبقيت في مكاني أنظر في دهشة دون أن أتكلّم وكأنّني في حلم، بل في كابوس لعين وعيناي الواسعتان تتساءلان في استفهام: “ أيكون قد مات؟” لم أجد في ذلك الكيس سوى ملابس سليم والكوفية التي كان يرتديها بعنقه. كانت أدباشه ملطخة بالدماء. شعرت أنّ الأفكار تسقط من ذاكرتي المتعبة، وازدحمت الصّور في مخيّلتي حتّى عدت لا أرى شيئا. سرت في جسمي من قمّة رأسي إلى أخمص قدميّ رعدة كانت أعنف ما يمكن لأوصالي وصرخت إجهاشا يمزّق الأكباد “ هل مات؟ أحقا مات؟ أحقا لن أر سليم مرة أخرى؟ أجبني أيها المجرم أجبني” نظر إلي إيتان وقد وقعت على الأرض من أثر الفاجعة ثم ردّ : “ أجل، هذا جزاء المتطاولين فلتعتبري” كانت الدموع تنسكب من وجنتاي تباعا بلا توقف وجعلت أسأل بغصة بالغة والشهقة تملأ حنجرتي: “ لماذا؟ ما الذي فعله؟ بم أذاك كي تفعل فيه هكذا ؟ لماذااا أيها الكلب” نهضت شيئا فشيئا وانهلت عليه ضربا ولكما في صدره بيداي الضعيفتين. حتى ضرباتي لم تكن موجعة من فرط الوهن الذي شعرت به حتى سقطت على الأرض وبقيت ممسكة بربلة ساقه أضربها وأسأله لم فعل هذا بصوت متقطع ونحيب متصل وبكاء مسترسل. كان الحزن يمتصّ قلبي امتصاصا فيسلبني قوتي ويقضي عليّ شيئا فشيئا. خلّص جاكوب ساقه من يدي وغادر فبقيت وحيدة أذرف الدموع طيلة الليل متكئة على الحائط. لقد فقدت اليوم خطيبي وابن عمي وصديق طفولتي، اعتراني ندم شديد، ليتني استطعت أن أحبه كما أحبني، ليتني عندما سألني عن مشاعري تجاهه لم أخبره بأنه أخ بالنسبة لي ليس أكثر. ليتني عندما سألني لم قبلت طلبه للزواج إذن لم أخبره أني وافقت لأني وجدت فيه الرجل المناسب وأني أؤمن أن الحب يأتي بعد الزواج، ليتني عندما طلب مني أن تكون هذه الرحلة فرصة ليتأكد كل منا من مشاعره تجاه الآخر لم أحرجه وأخبره أن مشاعري مادامت لم تتغير لعشرين سنة فلن تتغير الآن. ليتني وليتني... كانت السّاعة تتنقّل ببطء، والوقت يمضي متثاقلا يضني النّفوس مشحونا بالأم والندم.
في الخارج كان جاكوب لا يزال منهمكا في عمله في المكتب، رفع رأسه وألقى نظرة على الساعة الحائطية المعلقة فلما رأى أن الوقت قد تأخر حمل ملازمه وخرج ثم تذكرني أمام الباب فعاد أدراجه إلى المصحة ووجد الحارس لدى الباب.
جاكوب: - هل اصطحبتم تلك الفتاة إلى زنزانتها؟
الحارس: - آه، ماذا؟ عفوا سيدي نسيت هذا أنا آسف سأنقلها على الفور
جاكوب: - انتظر لحظة
دخل جاكوب خلسة ورائي فلم أتمكن من رؤيته في الظلام الدامس ولكنه على الأغلب رآني أو سمع شهيقي وأنّاتي وسرعان ما خرج ثم خاطب الحارس
جاكوب: - لا بأس دعها هنا الليلة .
الحارس: - حاضر سيدي، كما تشاء.
وطلع الصّبح وتبدّد الحلم وقد غفوت فلم أفق إلّا على صوت جاكوب. فتحت عيناي فرأيته واقفا صحبة ميريكا وروبن وآخرين تفاجؤوا بوجودي روبن: - ماذا تفعلين هنا إيسمين؟
- اسمي ياسمين وليس إيسمين.
روبن: - إيسمين اسم يهودي ويناسبك أكثر ما دمت قد أصبحت واحدة منا. هل أفاق الزعيم بنيامين؟
- مُرْ أحد الأطباء أن ينزع عنه أثر البنج وسيستفيق. أريد أن أعود إلى غزّة. ها قد أنقذته، دعوني أذهب.
روبن: - ألم تسمعي ما أخبرتك به البارحة أم أنّك نسيت بهذه السرعة؟ من اليوم صرت طبيبة لهذا الجيش ولذا لن تغادري هذا المعسكر إلى آخر رمق من حياتك أفهمت الآن؟ هيّا خذوها إلى زنزانتها !
الجندي: - حاضر سيّدي.
الجنرال هومز: - مبارك ميريكا، ها قد عاد إلينا والدك اللّواء بنيامين بسلام
ميريكا : - أبي، أبي هل تسمعني؟ ، أبي.. آه.. انظروا لقد فتح عينيه أخيرا.
روبن: - هنيئا على سلامتك سيدي
بنيامين: - اطمئنوا..لن أموت قبل أن أقضي على جميع الفلسطينيين وأمسح أثرهم.
ميريكا: - أبي. لقد أخفتنا عليك، استرح الآن ولا تتعب نفسك بالكلام.
روبن: - ههههه سنسترجع أرضنا يا سيدي وسننتصر لا محالة.
ميريكا: - هؤلاء كانوا عبيدا لنا من البداية وخدما تحت أقدامنا وسيبقون هكذا إلى الأبد فلا تقلقوا جميعا. المهمّ أن تتعافى الآن يا أبي.
بنيامين: - ما بك جاكوب؟ لم لا تقول شيئا؟
جاكوب: - آه.. كلا.. أنا سعيد بعودتك سالما ولكن لدي عمل. عن إذنكم!
بنيامين: - ولاؤه وتفانيه في خدمة جيشنا وعزمه الشديد على الانتقام يجعلانني أفخر بتربيته وبتزويجه ابنتي.
هومز: - أشاطرك الرأي سيدي فجاكوب قائد شجاع وداهية في المكر كما أنه يتمتع ببنية جسدية قوية ويحظى بفنون قتالية عالية. أحسنت الاختيار سيّدي. هل تعلم أنّه كان سببا في إنقاذ حياتكم؟
بنيامين: كيف هذا؟
روبن: - ثمّة طبيبة عربية متخرجة من جامعة أمريكية ومتحصلة على جائزة نوبل للطب أقدمت إلى هنا لتعالج الفلسطينيين فاصطدناها لنا... وبقي روبن يقص الحكاية على سيده حتى أمره بأن يحضرني إلى قصره في مساء الغد. وكذلك فعل إذ قدم أبراهام فأخرجني من قفصي وأخذني إلى جاكوب الذي مسك يدي وأمرني أن أذهب معه ورغم أني نزعتها بقوة ألّا أنه مسك ذراعي ثانية وجرني حتى أركبني في سيارته فلما وصلنا القصر ودخلنا الحديقة هبّت ميريكا نحوه وطبعت على جبينه قبلة
ميريكا: - لمَ لمْ تأت البارحة؟ قلقت عليك كثيرا. حتى هاتفك كان مغلقا.
جاكوب: - انهمكت في العمل ونسيته.
دخلنا وهو يقتادني إلى هناك حتى لقينا بنيامين جالسا على الأريكة المقابلة وجلس الجميع بينما بقيت واقفة.
بنيامين: - بإمكانك أن تجلسي
- لم أتعود الجلوس على الكراسي النجسة المدنسة.
قام من مكانه متظاهرا بالابتسامة فتقدم تجاهي وما لبث أن صفع وجهي حتى وقعت على الأرض ثم قال: “ لا تحسبي أن إنقاذك لحياتي، يبيح لك التطاول علي. فلتعتبري هذه الصفعة مصافحة أولى للتعرف” ومد لي يده ليوقظني فتركتها ممدودة ونهضت بمفردي فأضاف: “ جاكوب، على طبيبة الجيش الإسرائيلي أن تكون قوية البنية أريد منك أن تدربها متى استطعت ”
جاكوب: - حاضر
بنيامين: -ستبقى تحت وصايتك دائما. فاعتني بها ولا تتركها تقطن في زنزانة. أسكنها في إحدى غرف الطابق الثاني للمعسكر كي تكون قريبة منك دائما وتحت رقابتك. أنت المسؤول عنها إذا هربت.
جاكوب: - لا تقلق سيدي
بنيامين: جيّد. اتبعني إلى الداخل إذن... غدا سوف يقف الحجيج على الحدود ليذهبوا إلى مكة، نريد أن نمنعهم من المغادرة وأن ننسفهم
جاكوب: - وماذا عن الرأي العام سيّدي؟
بنيامين: - ههههه سنتصرف كعاداتنا. في الأساس لسنا نحن من سيقضي عليهم، مجرد الانتظار في تلك الشمس الحارقة بدون قوت أو مأوى ومع كبر سنهم سيقضى عليهم. وإن صارت مناوشات واشتباكات فسنقطع الرقاب. ”
كنا في طريق العودة عندما طلبت من جاكوب أن يوقف السيارة لأنني أحسست بمغص في معدتي وبحاجة إلى التقيئ. أوقفها فنزلت ثم نزل خلفي ابتعدت قليلا وتظاهرت بمحاولة الإستفراغ ثم أخذت أجري بأقصى سرعتي محاولة الهروب. وانتبه إليّ فأخذ يلحق بي. حاولت الإسراع وواصلت الركض بدون أن ألتفت إلى الوراء وفجأة وقعت على الأرض. كنت أحاول أن أتجشّم عندما وجدته يقف أمامي ضاحكا: ” محاولة غبية ” ثم جلس القرفصاء وسأل: “هل تأذيتي؟” فأجبته بحدّة ”ما شأنك؟ ” نهض ثم أمسك بي حتى أركبني السيارة مرّة أخرى.
جاكوب: - لم تحاولين الهروب؟ ما الذي ينقصك هنا؟ وضعك أفضل من وضع الأسرى بكثير: غرفة خاصة، طعام وشراب، تزاولين عملك... ماذا تريدين أكثر؟
- آسفة. ولكني أريد شيئا لن تفهمه أبدا طيلة حياتك وربما أيضا بعد مماتك. شيء يسمّى عزّة أو يكنّى كرامة. من المؤكد أنك لم تسمع بأشياء كهذه من قبل! وأنّى لأمثالك أن يفهموا هذه الأشياء؟ أنتم مجرد عبيد تتلقون الأوامر وتنفذونها مهما ارتفعت منازلكم تبقون عديمي النخوة...
وعلى حين غرّة ضغط جاكوب على الفرامل حتى ارتجّت السيارة ووقفت. ثم نزل فانحنى وأمسك بهرّة صغيرة عرجاء تجوب الطريق فوضعها على الرصيف ثم صعد وانطلق مجدّدا. بقيت شاخصة لا أفقه شيئا. كيف أمكن له أن يقتل البشر وينقذ الحيوان؟ أيكون هذا الذي بجانبي جاكوب المجرم القاتل ؟ وددت لو أسأله فلم أجد بدّا وتجاهلت القصة فأردف: “عن ماذا كنا نتحدّث؟ آه... عن الكرامة أريد أن أسألك بدوري: هل أنت مختلفة عنّي؟ من هنا فصاعدا أنا أنفّذ وأنت تنفّذين، الفرق أنني أنفذ بقناعة تامة، أنفذ ذلك بفخر، أنفذ وأنا أسترجع حقّي وحقّ أمي وقومي وبلدي، أنفّذ وأنا هنا قائد الوحدات وآلاف الجنود تحت إمرتي. ماذا عنك؟ أنت تنفّذين خوفا ورضوخا واستسلاما، تنفذين وتذعنين للقرارات وتطبقين المطلوب بلا إرادة وبلا قناعة. في المرة القادمة أنصحك أن لا تتصرفي وكأنك أفضل مني حالا ها قد وصلنا هيا انزلي...آه قبل أن أنسى... أنصحك أيضا أن لا تحاولي الهروب مرة ثانية”
- لست في حاجة إلى النصح من خسيس بلا ذمّة مثلك.
لم استطع قول غير هذه الكلمات للأسف انعقد لساني أمام إهاناته. لو عشت ذلك المشهد مجددا لكان لي جواب ثان وحجج ثانية أدافع بها عن نفسي وأورّطه غير أن الكلمات ضاعت مني فجأة في تلك اللحظة وبت عاجزة على ردع إحساسي بالذل والمهانة أمام عباراته. فتحت باب السيارة لأنزل وفجأة رنّ هاتفه تناوله من جيبه ثم أجاب:
- ماذا هناك ميريكا؟ .. أجل.. حسنا سآتي.
أظنني وجدت الفرصة للتوّ لأفصح عما يختلج في صدري فالتفت إليه قائلة: - الليلة، وأنت تنام في حضن زوجتك، تذكر كم زوجا قتلت زوجته أو اعتديت عليها نصب عينيه. ربما تعرف عندها الفرق بيني وبينك .
جاكوب: - لم أغتصب فتاة قطّ في حياتي
- أتعجب من نفسي أحيانا ! لم أستغرب الكذب من قذر مثلك!
أغلقت باب السيارة بقوة ثم دخلت المعسكر فاقتادني أحد العساكر إلى
الغرفة المخصصة لي. أما جاكوب فقد عاد أدراجه إلى منزله. دخل فاستقبلته ميريكا بكل ترحاب وساعدته في نزع معطفه ثم عبرت له عن اشتياقها الكبير له وتلهفها لعودته إلى البيت بعد ثلاث ليال من الغياب ثم اقتربت كي تضمّه من الخلف فنزع يديها عنه ودخل قاعة الجلوس. حزّ ذلك في نفسها ولكنها تظاهرت بأنّ شيئا لم يحدث واقترحت عليه أن يذهبا للعشاء فرفض. فعرضت عليه الخروج للتنزه ونسيان ضغط العمل فأبى. ثمّ أخبرها بأنه لا يريد الذهاب إلى غير النوم. حينها لم تستطع ميريكا تحمّل المزيد واصطناع الهدوء مجددا فصرخت في وجهه: جاكوب لم تعاملني هكذا؟ لك كل ما حاولت الاقتراب منك خطوات ابتعدت أنت أقدام؟ لم كل ما حاولت تخفيف هذا الجفاف الذي يشحن علاقتنا منذ أن تزوجنا ملأتها أنت أكثر فأكثر؟ كل هذا من أجل الإنجاب؟ لهذا صرت لا تطيقني ولا تطيق البيت؟
جاكوب: - ميريكا ما علاقة هذا الأمر ، لا تخلطي الأمور بهذه الطريقة
ميريكا: - كلا، أنا لا أخلط الأمور ولكن مشكلتك الوحيدة معي هي الأطفال.
جاكوب: - حسنا اعتبري ذلك صحيحا إذن، انظري إلى هذا البيت كم يبدو خاليا ومقفرا! ميريكا لقد ذقت ذرعا. كل ما أطلبه منك مجرد طفل صغير يملؤ هذا البيت دفئا وحنانا. هل يبدو هذا الطلب تعجيزا؟ هل يبدو صعب المنال؟
ميريكا: - طلبت منك ألف مرة أن نتبنى طفلا فرفضت ذلك بشدة.
جاكوب: - لأني أخبرتك ألف مرة بأنّني لا أفتح جمعية خيرية. أريد طفلا من صلبي،وريثا يحمل اسمي فلا تحاولي سدّ عجزك بفكرة التبنّي مرة أخرى.
وتواصل الشجار بين جاكوب وميريكا حتى حمل معطفه وغادر البيت. في تلك الأثناء كنت في تلك الغرفة فجال في خاطري كلام جاكوب وتساءلت عن مصيري هل سأستمرّ هكذا ؟ إلى متى سأبقى في هذا المعسكر؟ هل سأتحول إلى طبيبة الجيش الإسرائيلي حقّا؟ هل سأصبح ذلك الحمل الوديع ؟ بدت لي الغرفة ضيّقة، موحشة، وانكمشت داخل فراشي، بين أربعة جدران، وظللت السّاعات الطّويلة شاردة الذّهن، لا أكاد أستقرّ على حال وازدادت حالتي تأزّما وانتابتني وحدة وكآبة وسيطرت عليّ رغبة عارمة في الانزواء والهروب من أعماقي المتمزّقة وكلّما أوغلت في وحدتي أحسست بتحدّ داخلي. وفجأة سمعت صوتا. فنهضت ووقفت أسترق السمع:
الجنديّ: - سيّدي هناك فتاة صغيرة ضمن الأسرى تشكو مرضا ما.
أبراهام: - أحضرها إلى هنا على الفور.
الجنديّ: - حاضر سيدي.
وبعد قليل سمعت صوت أقدام وصوت أنين وإعوال ولكني لم أستطع رؤية وجهها عبر الثقب ففتحت الباب وخرجت
أبراهام: - من سمح لك بالخروج من غرفتك؟ هيا عودي حالا !
- دعني ألقي نظرة على المريضة
أبراهام: - عودي إلى غرفتك
- رجاءا
الجنديّ: - سيدي هذه الفتاة ابنة “سعيد شاكر”
أبراهام: - ماذا؟ ما العمل إذن؟
كنت أنظر إلى الفتاة بكل شفقة، كان تنفسها متقطعا وقصيرا تئنّ أنينا يتقطّع له القلب، ويذوب له الصّخر. أما عيناها فكانتا تعبتان، كأنها في حالة من الحمى، وكان وجهها شاحبا وكأنها في نزاعها الأخير. كان يثير في النفس مشاعر الأسى والألم إلى حد كبير. والدها أحد قيادات المقاومة وبالتالي لم يعرف أبراهام كيف يتصرف فخيّر الاتصال بجاكوب الذي وصل بعد برهة
جاكوب: - أبراهام ما الذي يحدث؟
أبراهام: - إسراء شاكر إحدى الأسيرات وابنة زعيم المقاومة تلفظ أنفاسها الأخيرة على ما يبدو
- جاكوب أرجوك دعني ألقي نظرة عليها ربما استطعت مداواتها أرجوك جاكوب: - لا أصدق ما يحدث. هل تتوسلين إليّ الآن بعد ما قلته منذ قليل.
هذه الفتاة نحن من أمرنا بقتلها فكيف تريدين مني أن أسمح لك بمداواتها
- ماذا تقصد؟
جاكوب: - نحن من أمرنا بتسميمها. هل اتضح لك الأمر الآن؟ هيا عودي إلى غرفتك ولا تتدخلي بأمور لا تعنيك.
بقيت صامتة ، أنظر إليه نظرة غيظ وحنق وفجأة ارتمت الفتاة الصغيرة على الأرض وأغمضت عينيها فترقرقت دمعة اليأس في عينيّ ولأوّل مرّة شعرت أنّ الحياة تلفظني وتتحدّاني واشتدّ بي الغضب ولم أعد أتماسك نفسي فاندفعت نحوه ولكني لم أجد قوة للصراخ واكتفيت بسؤال:
- أنت متزوج أليس كذلك؟
جاكوب: - أجل، ماذا بعد؟
أبدا.. أردت فقط أن أسأل كيف بإمكانك أن تحضن أبناءك وتمسح على شعورهم بهذه الأيادي القذرة الملطخة بالدماء؟ كيف لك أن تضمهم إلى صدرك وتقربهم من هذا القلب المريض المليء بالوحشية؟
جاكوب: - قلت أني متزوج ولم أقل أنّ لديّ أبناء.
- آه فهمت... في الواقع هذا أمر طبيعي فنحن النساء العربيات نثق بأزواجنا وبقدرتهم على منح أبنائنا الكثير من الرحمة والحب والحنان والدفء ولهذا ننجب منهم الأطفال، أمّا أمثالكم من عديمي الشرف وفاقدي الضمير فنساؤكنّ لا يثقن بكم البتة لأنهنّ يوقنّ بعجزكنّ عن منح هذه المشاعر لأيّ كان ، فكيف تريد من زوجتك أن تنجب الأطفال لمجرم مثلك؟
اخترقت كلماتي بواطن جاكوب لأول مرة على ما يبدو فلم يستطع كضم غيضه ولا أسر غضبه وقام من مكانه فعلم أبراهام مسبقا أني لن أكون بخير. اقترب جاكوب فرفع يده وصفع وجهي بكل قوة ثم صفعني ثانية وثالثة ثم جذبني من شعري وجرني إلى الحائط المقابل وأخذ يضرب برأسي عرض الحائط مرارا وتكرارا والدماء تسيل منه بغزارة ثم مسك رقبتي وضغط عليها بكلتا يديه حتى كدت أختنق ونزلت قطرة دم من رأسي النازف على يده فرفع عيناه إلى عيني الخضراوتين المتضرعتين فرأى فيهما فجأة ما شوّش باله وذبذب ذاكرته وشعرت بيده الممسكة بعنقي ترتعش أكثر فأكثر. ارتسمت في مخيلته تلك المرأة ذات الشعر البني وهي تتضرّع وتطلب الرحمة، ذلك المشهد الذي لم يغب من خياله مذ كان طفلا والذي جعله يتركني يومها. فتح أصابعه فانبجست رقبتي ووجدت نفسي أهوى على الأرض فاقدة قواي.حاولت الوقوف تدريجيا وتمسكت بالحائط كي لا أقع. كانت ملامح أبراهام توحي بدهشة وتعجّب كبيرين في حين احمرّ وجه جاكوب وحنق. شعرت بالدوار الشديد فخطوت رويدا رويدا. كانت خطواتي غير متزنة ـ أتعثر في طريقي، أميل ذات اليمين وذات اليسار، وفجأة ارتميت إلى الوراء وكدت أنحدر لولا أن مسكني أحد من الخلف بين ذراعيه، ثم رفعني وحملي إلى غرفتي وقد اتكأت عليه، مغمضة عينيّ المنهوكتين من شدة التعب .. ولم أتفطن إلا عندما وضعني في فراشي أنه كان جاكوب. وما إن خرج وانخرطت في نوبة من البكاء الموصول وانتسبت إلى وصلة من الذهول. أيعقل ما أراه؟ أيفهم ما أعيشه؟ فجأة احتجزت في هذا المكان، فجأة فقدت اثنين من زملائي، فجأة خسرت رفيق دربي وصديق طفولتي، فجأة أهنت وضربت، أصبحت أيامي مجرد مفاجآت تأتي على حين غرة وتجعلني أمام الواقع المحتوم أرضخ وأمام المصير البائس أركع. أ يُفقه ما يفعله جاكوب؟ في الصباح يقتّل الآلاف وفي المساء ينقذ القطط، قبل قليل كان يضربني ويخنقني وبعدها بثوان يحملني بين ذراعيه إلى فراشي... في حيرة من أمري أمضيت ليلتي.
أمّا جاكوب فقد عاد إلى منزله ولم يستطع أن ينام طوال الليل. ظلت نظراتي الثاقبة شاخصة في خياله، وظل مشهد ضربه لي عالقا في ذاكرته إلى أن أشرقت الشمس في الغد ونشرت أشعتها على قبة المسجد الأقصى، هناك حيث يدخل ثلة من اليهود ليؤدّوا مناسكهم ويمارسوا طقوسهم في ظل حراسة أمنية مشددة وأمن مستتب، هناك حيث انتصبت امرأة فلسطينية في عمر يناهز التسعين تسأل الحارس أن تصلي صلاة ببيت المقدس مرة قبل أن تموت فيدفعها فتسقط ويركلها فيرتطم رأسها بالرصيف فتفارق الحياة دون تلك الأمنية، هناك حيث كان المسجد الأقصى صامتا خاشعا وكأنه يبكي ويشكو وكل مبنى حوله في سكون يسمع شكواه ويشاركه أنّاته. في صباح ذلك اليوم أفقت أتلمّس وجنتي المنتفخة وشفاهي المشققة وعيني المتورمة ومرّ شريط من ذكريات الأمس أمامي شردت فيه ولم أستفق إلا على صوت طرق الباب
- من هناك؟
- دكتورة ياسمين أنت مطلوبة في المستشفى.
- حسنا سآتي.
لبست ثيابي ونزلت إلى الطابق السفلي فلاحظت وجود حركة غير معهودة وسمعت صوت أحد القادة يأمر فريقه بالاتجاه نحو المعابر وآخر يكلف جنوده باللحاق بفرقة جاكوب عند البوابة الشرقية وكنت أمشي بينهم داعية ربي أن يخيب آمالهم ويفشل مخططاتهم وقصدت المكان الذي كنت أبيع كرامتي فيه كالعادة، أين أكره المهنة التي عشقتها دوما، أين أشعر بالقذارة والدناءة، أين تكبِّل حياة الأطفال يدي وتلجّم فمي وتعقد لساني.
أمام المعبر وقف العساكر ناصبين الأسلاك الشائكة مانعين الحجيج من المرور. كلما تقدم أحدهم ليناول أوراقه إلى جندي رموا بملفه جانبا وقالوا أنه منقوص حتى ذاق المنتظرون ذرعا وتآمرت الطبيعة ضدهم حيث كانت الحرارة مرتفعة جدا وراحوا يتقاسمون ما تزودوا به من غذاء ومياه وما مر يومان حتى أصيب معظمهم بالتعب وفقد آخرون الوعي ومنهم من فارق الحياة. على الرصيف ارتمت مسنة كدها الجوع وأشقاها العطش وأرهقها الحر وأنهكها التعب تدعو على الجنود فقتلها أحدهم. في الجانب الآخر تجلد أحد الرجال فنهض ليخاطبهم فقتلوه ولمّا يصل إليهم حتّى، وكلما تدخل الممرضون أو الصحافيون كان مصيرهم القتل أو الاعتقال.
وعادوا أخيرا إلى المعسكر الإسرائيلي فرحين بنصرهم السخيف، نصر حققه
مئة جندي مسلّح أو أكثر أمام ثلة من الشيوخ العجزّ والمسنّين العزّل. مشى أبراهام يتفاخر بجانب جاكوب وما إن وصلا مكتب بنيامين حتى التفت.
أبراهام: - أدخل أنت، سأذهب إلى المصحّة
جاكوب: - لماذا؟
أبراهام: - جرحت يدي قليلا. سأذهب كي يضمّدوها لي. عن إذنك.
مضى أبراهام ووقف جاكوب متعجبا لأنه لم يلحظ خدشا في يده قط.
صعد أبراهام إلى غرفتي ولم يذهب إلى المصحة كما زعم. دخل فجأة وبدون استئذان فلما وقفت من مكاني لأطرده جذبني ورماني على السرير وحاول الاعتداء عليّ فاشتدّ خوفي وما أصعب وأمرّ أن يقع الإنسان في قبضة الخوف فيدهوره ويحطّم معنوياته ! تعالت صرخاتي تباعا فلما مدّ يده إلى أزرار قميصي، تفلت في وجهه وحاولت الهروب فأمسك بي ثانية وأحكم إغلاق الغرفة وارتفع صوت استغاثاتي حتّى وصل أحدهم في اللحظة الأخيرة وأخذ يطرق الباب صارخا:
جاكوب: - أبراهام افتح الباب
أبراهام: - جاكوب هذا أنت، لا تتدخّل في شؤوني !
جاكوب: - أبراهام قلت لك اتركها حالا. هيا افتح الباب
أبراهام: - لا علاقة لك بالأمر !
عمد جاكوب إلى ضرب الباب بقوّة حتى خلعه فولج وجذب أبراهام ثم لكم وجهه وجذبني ليخرجني فنهض أبراهام ثانية وقال له بحدّة بالغة:“ما دخلك بها؟ أم تراك نسيت أنّها إحدى الأسيرات وأن النظام يخوّل لنا ممارسة ما نشتهي معهنّ؟ ”
جاكوب: - ابتعد وإلاّ.. !
أبراهام : - وإلا ماذا؟
مدّ جاكوب يده فضمّها ولكمه ثانية ثم جذبني وأنا أرتعد. أدخلني غرفته الخاصة فأجلسني على كرسيّ وأبعد شعري الذي تلبّد فغطّى عينيّ ثم ناولني كأس ماء وسألني“ هل أنت بخير؟ ” فأسقطت ما بين يديّ من فرط ارتباكي وتبلل طرف سرواله بالمياه فلم يعبث ووضع يده على كتفي فنزعتها بقوّة ونعرته “ ابعد يداك عني أيها المجرم ابتعد ! أكانت هذه مسرحية من إعدادكم؟ ابتعد ! ” صرخت بطريقة هستيرية كالأهوج الممسوس ثم رحت أرمي بكل ما حولي أرضا وتغيرت نظراتي حتى اضطر جاكوب إلى استدعاء طبيب ليفحصني. حقنني المهدئ ثم شرح لجاكوب أنني أصبت بانهيار عصبيّ وطلب منه أن يبعدني من هذا المكان لفترة وجيزة كي أستريح. خرج ليفكّر لبرهة ثم عاد فاصطحبني اتكأت عليه وقد كنت عاجزة على المقاومة من أثر الحقنة. امتطينا سيارته ومضينا ومضى في ذهني شريط العادة. أصبحت تائهة ضائعة لا أفرّق الصديق من العدوّ. من رأى اليوم كيف كان يدافع عني بشراسة يخال أن جاكوب شديد الاهتمام بأمري والتعلق بي ومن يراه كيف عذبني في المرة الدابرة يخال أنه أشدّ الناس لي كرها وأكثرهم علي حقدا وسخطا. وقفنا أمام بيت قديم فمر بذهن جاكوب شريط طويل من ذكريات الطفولة التي شرد فيها لزمن ثم نزلنا ودخلنا إلى هناك. ولجنا غرفة فساعدني للوثوب على الفراش ثم خرج ودخل غرفة صغيرة أخرى. كان بها سرير صغير ،خزانة قديمة، بعض اللعب والدببة القطنية على الأرض وفي الركن انتصب صندوق خشبي كبير.
التمعت عيني جاكوب ومرت بها العبرات، تنهّد بصمت ثم اقترب من الصندوق الذي تلحف بالغبار وشباك العنكبوت ففتحه. كانت به ألعاب بالية وإطار به صورة والدته. تناول تلك الصورة فتأمّلها حتى احمرّت عيناه وبدا عليه التأثر ثم استجمع ملكاته “ آسف أمي. ولكنّي لا أعرف لمَ تذكرني تلك الفتاة بك كثيرا؟ لم عندما أحميها أشعر بأني أحميك؟ لم كلما دقّقت فيها النظر غصت سابحا في بحار عينيها وهبّت صورتك إلى مخيلتي مباشرة. آسف أمي أعلم تماما أن هذا يزعجك. كيف لا تغضبين من ابن يعامل واحدة من الذين ظلموك كصاحبه ! تأكدي أنني سأضع حدا لهذا الأمر. لا تحزني لما رأيت مني من ضعف. سأواصل الدرب حتما وسأعمل على الانتقام لك طيلة حياتي” كان بصدد إرجاع الإطار إلى مكانه عندما رأى سوارا أحمرا صنع من الجلد الرقيق. تناوله فدقق فيه النظر وشعر أنه رآه قبل هذه المرة ثم خانته الذاكرة فوضعه في جيبه وغادر. مرّ عليّ وأخبرني بأنه سيأتي في الليل لإعادتي إلى المعسكر وأخبرني بأنه سيقفل الباب مخافة أن أهرب. فطلبت منه أن يوضح لي لم ساعدني فأجاب بردّ غامض لم أفهم منه شيئا. قال بصوت خافت وكأنه يحاكي نفسه عوض أن يخاطبني “ لأن تلك المرأة التي تشبهك كانت قبل بضع وعشرين سنة في نفس الوضع الذي كنت أسيرته قبل قليل وكنت حينها عاجزا عن حمايتها”
في تلك الأثناء كان أبراهام يحتقن غيضا فما إن لمح جاكوب عائدا حتى اندفع إليه فمسكه من مئزره.
أبراهام : - أين هي تلك الفتاة؟ أين أخذتها؟
جاكوب : - الأمر لا يهمك بتاتا. وإياك أن تعيد ما فعلته ثانية !
أبراهام : - أظنك صرت عاطفيا أكثر من اللازم. أ تراك نسيت ما فعلته أنت بها منذ أيّام؟
جاكوب : - كفاك سخفا. أنت تعلم مسبقا أنّي أعارض اغتصابكم لأي أسيرة
أبراهام : - حسنا، أين أخذتها؟
جاكوب: - ابتعد من أمامي !
أبراهام : - أنت تخالف القوانين !
جاكوب : - أنت من خالفتها أولا! ياسمين أصبحت الطبيبة الرسمية للجيش لذا فأنا أعتبرها مواطنة إسرائيلية ثم إنني أنا المسؤول عنها وعن حمايتها.
ترك جاكوب أبراهام الغاضب واقفا وقصد مكتبه، ارتمى على كرسيه الدوار ورفع رأسه إلى السقف ثم وضع يده في جيبه فأخرج ذلك السوار، قلبه مرة ثانية وهدرا حاول استرجاع ذاكرته فلما فشل أعاده وانخرط في العمل. في الليل كان في موعده وأتى فاصطحبني إلى المعسكر. عند الباب نظرت إليه ثم قلت" جاكوب " فاستغرب وقاطعني " هذه أول مرة لا تناديني فيها بالمجرم" ابتسمت ثم شكرته على ما فعل معي اليوم وصعدت إلى غرفتي، وارتميت على السرير أفكر في أمره. أيعقل أن يملك جانبا خيّرا في شخصيته! لم لا؟ لم لا يكون في قلبه بعض الإنسانية! ولكن من هي تلك المرأة التي تحدث عنها! بقيت أتخبط في بحر التساؤلات بلا أجوبة. وأكثر ما دفعني إلى الحيرة آخر كلمة قالها جاكوب عندما كنت أصعد السلم "بشأن تلك المرة التي... أعلم أنني بالغت.. آسف" دام تفكيري به برهة طويلة فلمّا استدركت نفسي أحسست بالخجل ويحي! كيف لي أن أفكر فيه بهذه الطريقة! أتراني نسيت ما فعله بعمرٍ وطارق وسليم.. وإسراء أيضا وكذلك الحجيج والمئات من الذين لا أعرفهم.. أيعقل أن يكون وحشا بمشاعر! ربما كان سفاحا رؤوفا..أو علّه كان مجرما رحيما! ...ما هذا ياسمين كفي عن الغباء سيضل مجرد وحش سفّاح قاتل ومجرم.كفّي عن التفكير به.
مضت أيام هادئة في المعسكر وأخرى متشنجة ولكن حالتي كانت تسوء يوما بعد يوم. أصبح العمل والطبّ بالنسبة إليّ مهانة في أحط درجاتها وحقارة في أشمل معانيها. كنت كلما داويت جروح أحد الجنود شعرت بذاك الجرح يُفتح بداخلي ويأبى أن يلتئم. ولكن مُصاب اليوم لم يكن إسرائيليا كالعادة، كانت أسيرة عربية اعتقلوها في غزة عندما كانت تحاول إنقاذ أحد الجرحى فأطلقوا عليها رصاصهم ولكنّهم الآن بحاجة إليها ليستقوا منها بعض الأنباء، وكان علي إذن إبقاءها على قيد الحياة وفق أوامرهم وإلّا فالرّهان معلوم. اقتربت من الجريحة وكشفت عن وجهها لأراها فكانت الدهشة. صحت فجأة "مريم" نظرت إليّ إحدى الممرضات وسألتني: "أتعرفينها؟ " فنفيت ذلك وزعمت أنّني ظننتها في سابق الأمر فتاة أعرفها فلم تكن هي. ثم أمرتهم بتجهيز غرفة العمليات حالا بينما كان باطني يصرخ " تحملي مريم. عزيزتي أرجوك كوني قوية. سأنقذك بالتأكيد" . نظرت إلى بقية الطاقم ثم أردفت: “ احملوها إلى غرفة العمليات سأنظر في الكشف وآتي في الحال” مضيت وفي يدي صور التحاليل، كانت هناك مؤشرات واضحة تدل على تلف الأوعية الدموية بالقلب. رحت أحاول ضبط نفسي والتقليص من حدة التوتر الذي امتلكني. سعيت للتركيز بكل قواي ولكني كنت مشوّشة جدا وكأني لم أقم بجراحة قبل هذه. رميت في الأخير بالأوراق ودخلت غرفة العمليات ثم جهّزت نفسي وانطلقت. كالعادة كانت كل عملياتي مراقبة من الأعلى فما إن رفعت بصري حتى لمحت جاكوب وروبن ثم بنيامين الذي لحق بهما فيما بعد.
روبن: - ألا تلاحظون أن إيسمين تبدو مضطربة بعض الشيء!
بنيامين : - أجل، أمر غريب. المهم أن تعيش هذه الفتاة. بلغني أنها كانت طبيبة بمركز المقاومة. ستكون أشبه بخزّان أسرار وعلينا أن نعرف مخططاتهم بشأن الذكرى الثالثة والستين لما يدعونه بالنكبة.
روبن: - أنت محق يا سيدي. لا بد لنا من معرفة ما يدور داخل المعسكرات الفلسطينية كي نأخذ الاحتياطات اللازمة. ما بك جاكوب؟ لم تتابع بصمت؟
بنيامين: - وكأن الصمت غريب عنه. الكتمان ميزة جاكوب.
في خضم تلك العملية كنت أتفصد عرقا خاصة عندما انخفض ضغط الدم ونسب المؤشرات الحيوية والتي عادة طبيعية بعد عناء كبير وما إن فرغت حتى مضيت لأنزع قفازيّ الملطخين بالدماء. وفجأة قدم نحوي
جاكوب مخاطبا:
جاكوب: - أحسنت صنعا
- لا أعلم إن كنت قد أحسنت صنعا بإنقاذها أم أني قد أسأت عملا.
وعلى حين غرة دخل بنيامين ليسأل عن موعد استفاقتها فأمهلته أيّاما نظرا لكونها لم تسعف على الفور . مضيت بعدها إلى غرفتي واستلقيت على سريري مثقلة بالأرق والحيرة حتّى كاد الضيق في صدري يعذبني والإمعان في التفكير يرهقني ما الذي سيحصل الآن؟ ماذا إن قاموا بتعذيبها عند الاستجواب؟ لم أستطع النوم فنزلت إلى الأسفل أطرق باب النسيم علّه يفجج قلبي فيمتص منه الحزن ويزوّده ببعض الانشراح. مسكني أحد الحرّاس فسألني:
الحارس: - إلى أين؟
- أريد التنزّه في الحديقة قليلا
الحارس: - ممنوع. معنا أمر من الرائد جاكوب بمنعك من مغادرة هذا المقر.
- ابتعد من أمامي. أنا لا أتلقى الأوامر من أسيادك !
الحارس: - عودي وإلاّ...!
خلّصت ذراعي من يده وقصدت مكتب جاكوب. فتحت الباب مباشرة فوجدته يجري اتصالا وما إن رآني حتى قال بصوت خافت: “ حسنا ميريكا، سأتصل بك في وقت لاحق” ثم قام من مكانه وصدح
- هل يدخل العرب مكاتب الناس بلا استئذان؟
- لا تتحدّث عن الاستئذان فبدونه استعمرتم وطنا وشيّدتم عليه مبانيَ وقصورا فلا تنهى عن خُلقٍ وأنت تؤتي مثله !
- لم أتيت؟
- لم لا تسمح لي بالخروج إلى الحديقة والجنود يملؤونها جاكوب؟
- هل تعلمين أنك الوحيدة التي تناديني باسمي هنا وأن الجميع ينادونني سيّدي؟
- أجل. ولكن سيدي تعني السيادة والعزّة ولست أرى فيكم سوى المهانة
والحقارة. أريد أن أخرج للحديقة.
- ألم تقولي البارحة بأنني لست مجرما؟
- كلاّ! ربّما فقدت رشدي لوهلة ولكنّك ستبقى طيلة حياتك سفّاحا تبني مركزك بحجم الرقاب التي قطعتها وتعلو بكمّ الدّماء التي أسلتها. أريد أن أخرج من هنا لقد ذقت ذرعا بهذا السجن ولا يمكنني العمل في هذه الظروف.
- تعرفين ! تعجبني طريقتك في طلب الأشياء. لديك أسلوب مميّز . تُسمعين المرء ما لذّ وطاب من الشتائم ثم تطلبين منيتك. ولكن رغم أنّ وسيلتك في الطلب أشدّ غباء منك فإنني سأمكّنك من ذلك فقط وسط المبنى لأنّني سعيد اليوم. عليّ الذهاب الآن.
خرج من مكتبه ومشيت وراءه فقال لأحد الجنود الواقفين: “ دعوها تتجوّل هنا ولكن احذروا أن تهرب منكم ”
خرج بينما بقيت مدهشة لا لأنه سمح لي ولكن لأنها كانت المرّة الأولى التي
أراه فيها مبتسما. بدا مختلفا للغاية...أشرق وجهه فسطع مغايرا. حتى الجنديان استغربا لرؤيته بثغر متهلّل فقد عهد الجميع طبعه الجديّ الواجم.
في عزّة
في مدينة الحصار، في أرض غزّة ،أرض النضال ونبض العزّة. في ذاك الشبر المتبقّي الرافع لراية الكفاح، على تلك التربة الصامدة الحاملة لعلم المقاومة تحت اللظى وقذائف الأخطار، تلك التي منعت المحتلّ من الابتهاج بالأحلام والافتتان بمغازلة الزمن، تلك التي كلّما انفجرت وهي لا تكف عن الانفجار خدشت وجه العدو وكسرت راحته وصدته عن الرضا. هناك بين الحبّ والحرب، حيث صقيع الخوف ووحشة الترقّب ، حيث برودة الموتى وجحوظ العينين ، حيث يذعر الطفل فتسقط اللعبة من يده ، حيث تباد الأُسَر تاركة شايها الصباحيّ ساخنا على المائدة ، حيث تضجر المنازل شوقا لأهاليها ولضحكات الصغار فيها. هناك أين تضل الأغاني ألحانها وتُضيع الأشعار قوافيها وتفقد الرّسوم ألوانها. هناك حيث الزمن اقتحام للظهيرة المشتعلة. سمع أحمد طرقا فخاف أن تكون إسرائيل قد علمت بأمر دار النّشر والجريدة الجديدة. سار بخطى خفيفة ثمّ ألقى نظرة من ثقب الباب
فلم يصدّق ما رأى. فتح الباب وقد تهلّل وجهه ثمّ صدح:
- مرحبا بك، عمّي كِنان.شرفتنا بمجيئك فلتتفضل.
- مرحبا بك بنيّ. آمل أن لا يكون في مجيئي إزعاج لكم.
- كلّا بالعكس، لقد حلّت بنا البركات. هيّا ادخل
- شكرا لك. لقد احتفظت بعنوانك منذ آخر لقاء بلبنان، وأتيته ولم أكن على ثقة بأنّه لا يزال على حاله ولكنّي لقيتك والحمد لله.
- لقد قمت بتحويل منزلي إلى دار للطباعة والنشر، صرت أقيم مع والدتي منذ أن توفّى المرحوم والدي.
- غمدته الرحمة والسكينة.
- آمين. تعال وألق نظرة عمّي. سنخرج في الغد العدد الأوّل من هذه الجريدة. سنفضح بها ممارسات بني صهيون وجرائمهم البشعة أمام العالم من أرض الحدث بالأدلّة والبراهين. ما رأيك؟
- أحسنتم بنيّ، بارك الله في عملّكم ووفّق خطاكم. لولا شعلة الأمل المتّقدة
في أفئدتكم لماتت فيها العزيمة صدق من قال " روائح الجنّة في الشباب"
- وأنت أيضا لا زلت شابّا عمّي.أخبرني ما سبب هذه العودة بعد طول غياب
تنهّد العمّ كِنان وشبّك أصابعه ثمّ أردف:
- قصّة يطول ذكرها ولكن أتذكر ما ذكرته لك عن مقتل ابني تَيْم وزوجتي
- أجل أذكر كلّ ما رويته.
- لقد اكتشفت مؤخّرا بأنّ تيم لا يزال على قيد الحياة وأنّه في الأغلب في فلسطين. وربّما يكون ضمن جيش المقاومة لذا جئت للبحث عنه.
- أ حقّا عمّي. يا لهذا الخبر المبشر. صدّقني مضى زمن ولم أسمع أيّة بشرى قد تسرّ. على كلّ سأساعدك في التفتيش عنه حتّى تجده.
- شكرا لك ابني. أخبرني ما جديدك؟
- لا شيء يخصّ حياتي، منذ استشهاد أبي شاهين وأخي أمجد واعتقال أختي رويده التي لا نعلم عنها شيئا إلى اليوم وأنا أحاول تغطية غيابهما والتقليص من لوعة أمّي وحرقة قلبها ولكنّ النار التي بداخلها تأبى الخمود.
- هوّن عليك يا أحمد ولا تدع اليأس يستولي عليك ،انظر إلى حيث تشرق
الشمس في كل فجر جديد ، لتتعلم الدرس الذي أراد الله للناس أن يتعلموه ، إن الغروب لا يحول دون شروق مرة أخرى مع مطلع كل صبح.
- ونعم باللّه !
وفجأة طرق الباب مرّة أخرى فأعاد أحمد ذات الحركات الاحتياطية ولكنّه رأى زميليه فاستقبلهما بوجه باشر.
أحمد: - هل أحضرتما الحبر؟
قصيّ: - نعم
أحمد:- فلنبدأ بالطباعة على بركة اللّه إذن. آه تعالى لأقدّم لكما ضيفي الغالي. العمّ كِنان فلسطينيّ الدّم. هو يكبرني سنّا ومقاما ولكنّه صديق مقرّب وعزيز على قلبي منذ السنين الخوالي لمّا كنت ببيروت وكان هو هناك في المجهر بعد أن تمكّن من الهرب من سجون الصهاينة .
وائل: - مرحبا بك سيدي تشرفنا.
قصيّ: - حللت أهلا ونزلت سهلا. أنرت المحل.
كِنان: - شكرا لكما !فلتشرعوا في الطباعة الآن إذن. سأذهب كي لا أعطّلكم عن عملكم ولأسترجع بعض الذكريات وسأعود إليكم عند المغيب.
وائل: - أظنّ أنّ علينا إضافة صفحة قبل النشر
أحمد: - لماذا؟ ما الذي جرى؟
قصيّ:- لقد بلغنا للتوّ من زميلاتها أنّ جيش الاحتلال قام بأسر إحدى الطبيبات العربيّات القادمات في البعثة، واسمها مريم الحطّاب ولا نعلم إن كانت على قيد الحياة أم أنّها قد فارقتها. فقد أصابها أحد الجنود برصاصة
كِنان: - يا رب كن بعون هذه الفتاة وارحم ضعفها أين ما كانت.
وائل: - يجب أن نسيل الحبر في هذه القصّة.
أحمد: - معكم حق. فلنتصل بأحد المحرّرين إذن، أظنّ أنّ فستان الحداد قد راق هذه الأرض حتّى عشقته وأبت غيره.
كِنان: - ابني كن واثقا وتأمّل الفرج. إذا أردت لا تتّصل بالمحرّرين. مدّني بالمعلومات الكافية وسأكتب لك عن هذه الواقعة. أ نسيت أنّي كنت
صحفيّا قبل اعتقالي.
أحمد: - حسنا إذن. قصيّ مدّنا بما عندك من التفاصيل وشهادات العيان.
في المعسكر
نزلت إلى الطابق السفلي ومررت أمام زنزانات الأسرى فوقفت أمام زنزانتي التي كنت محتجزة فيها وعادت بي الذكريات إلى يوم مجيئي وتمنيت بصدق لو أعود سجينة القضبان وروحي تفيض كرامة على أن أكون شبه طليقة بنفس تفتقر إلى النخوة والشهامة والمروءة. في زنزانتي حلّت مكاني فتاة أخرى ، انحنيت على ركبتي وبادرتها:
- مرحبا! أتمنّى أن تسترجعي حرّيتك في أقرب الآجال
- ابتعدي أيتها الحقيرة من أمامي
- كلا أنت مخطئة. أنا عربية أنا لست منهم. لقد كنت مكانك منذ فترة
- أعلم ذلك ولكنهم ما تركوا سراحك وأبقوا عليك حذوهم إلا ما دمت عميلة وخائنة. بكم قرشا اشتروك.. بكم مليما بعت ذمّتك أيتها الدنيئة. سيري من أمامي رجاء فإن رؤية أمثالك تولّد في نفسي الاشمئزاز .
نهضت ولم أنبس بحرف. لم يكن بوسعي أن ألومها على قولها. طبيعيّ أن
تفكّر بتلك الطريقة. حتى إن أخبرتها بالقصّة فربّما لن تصدّقني وحتى لو صدقت فما الذي سيتغيّر لذا آثرت الصمت ومضيت فلمحت زنزانة الأطفال. مسكت قضبانها ونظرت إليهم بعينين دامعتين فرفعت رأسي إلى الأعلى وتمتمت: “ اشتروا كرامتي بكم وبعتهم ذمّتي مقابلكم. ألا يستحقّ نسمات في عمر الزهور حقّ الحياة وإن كانت رديئة! ألا يحق لهم الوجود وإن كان تعيسا!” فجأة شعرت بيد تلامس سروالي نظرت فإذا هي فتاة صغيرة تخاطبني:
- أنت الخالة التي أنقذتنا تلك المرّة أليس كذلك؟
- أجل. ما اسمك يا صغيرتي؟
- اسمي فرح
- تشرفنا وأنا ياسمين. كيف حالك يا فرح هل أنت بخير؟
- كلّا لقد اشتقت إلى أمي وأبي ومدرستي كثيرا. لم يتبق سوى أخي سعيد
- أين هو؟
- بالقفص المجاور.
- مرحبا يا سعيد.
سعيد: - أهلا بك يا آنسة كيف حالك؟
- بخير مادام بريق الطفولة لامعا بأعينكم البريئة. أخبرني كيف أتيتم إلى هنا؟
سعيد : - في يوم كنا عائدين من المدرسة أنا وفرح بلغنا منزلنا فلم نجد له أثرا.. لم نجد سوى كمّ هائل من الحطام والصخور المتناثرة حتى خيّل إلينا أننا أخطأنا الطريق والفتنا فإذا الطريق ذاته والمكان نفسه لقد تحوّل عشّنا الدافئ إلى دمار. جثة أبي كانت مردومة تحت الصخر، أشلاء أمّي كانت ممزقة بلا حراك،حتى ألعابنا طالها القصف وارتمت تبكي طفولتنا الضائعة وأحلامنا المنسيّة. ثم قبض علينا العساكر وأتوا بنا إلى هنا.
ولكن أكثر ما يزعجني هو أننا لم نعد قادرين على الذهاب للمدرسة.
فاضت عيناي الواسعتين فجأة من الدمع الذي انحدر ثم ابتسمت وسألته:
- ماذا تريد أن تكون في المستقبل؟
سعيد: - أريد أن أصبح مهندسا في صناعة الأسلحة والدبابات كي أزوّد بها المقاومة ونحرر أرضنا من براثن الاحتلال.
فرح: - وأنا أريد أن أكون صحفية كي أفضح جرائمهم
أخذ كل من الأطفال يدلي برأيه ويسرد حلمه مع أنّ أحدا لم يسأل. هناك أدركت مقدار الكبت الذي تعانيه أحلامهم واليأس الذي تشكوه آمالهم حتى أنها اندفعت تلقائيا عندما وجدت الفرصة..آمالهم كلها كانت تتعلّق بتحرير وطنهم الأسير وانتشاله من وحل الدمار الذي سقط فيه. أعمار هؤلاء الفتية بضع سنوات،بمقياس الأحاسيس دهور من المأساة اللاّمتناهية أمّا بمقياس العقول فهي قرون من النضج والرشد والإدراك . ولكنّ دهور المأساة حتما ستنقطع يوما ما وستشرق الشمس وينجلي الظلام وتنجلي سحب الصيف العابرة وأمّا قرون النضج فستثمر بالتأكيد وتؤتي أكلها عن قريب.
سعيد: - ولكننا سنبقى جهلة ولن نتمكّن من المضي في سبيل أحلامنا.
- كلاّ أنا سأعلّمكم
فرح: - كيف؟
- أعدكم بأن آتي إليكم يوميا وسأعلّمكم. لن نسمح للأسر أن يحول دون العلم.
سرّ الأطفال كثيرا ولمع بريق الأمل في أعينهم مجددا وانبعث الإشراق من ثغورهم الباسمة فأضاءوا به أنحاء المعتقل. كنت خارجة من هناك عندما خفق قلبي وتردّدت خائفة “ ماذا إن لم يسمحوا لي بذلك فأكون قد أحييت فيهم آمالا ثم قبضت لهاتها؟ ماذا إن منعوني فيكونون قد علّقوا بي أمانيَ لن يطولوها فأكسر قلوبهم مرّة أخرى وأخذلهم. ما كان عليّ أن أعدهم وأن أشعل فيهم هذا الحماس يا رب وفقني وساعدني ولا تكلني لهؤلاء المجرمين”
ومرّت ثلاث ليال استطعت فيها مزاولة تعليم الصغار الذين كانوا في قمّة الغبطة والنشوة والتهافت. تلك الليالي التي لم تخل إحداها من التفكير بذلك الشخص، جاكوب المجرم الغريب، وصرت أجهل لم علق ذكره في خيالي لهذا الحدّ. وكلّما طردت طيفه تملّكني من جديد. في الغد كنت أعلم أن مريم ستفيق من الجراحة أخيرا فلزمت المصحّة قبل طلوع الفجر ورحت أفكّر في وسيلة لخلاصها بسرعة قبل أن يعلم البقية. تفاجأت كثيرا عندما فتحت عينيها ورأتني فقد خالت أني فارقت الحياة. وسعدت بدوري كثيرا لسلامتها ومكثنا نتجاذب أطراف الحديث فرويت لها ما مررت به منذ تلك الفاجعة ثم أوصيتها أن تتظاهر بأنها لا تعرفني البتة لكي يثقوا بي.
وفجأة دخل علينا روبن وبنيامين فارتعدت فرائصي.
بنيامين: - سمعت صوتكما فيم كنتما تتحدّثان؟
- كلا...لا شيء.. كنت فقط أسألها عن هوّيتها فأخبرتني أن اسمها مريم وأنها قدمت ضمن قافلة تطوّعية لإغاثة سكان غزّة.
بنيامين: - لا جديد في ما ذكرت. قد تكونين طبيبة ناجعة ولكنك محققة فاشلة. والآن أخبرينا بما لديك أيتها الفتاة !
مريم: - أبعد يمناك عن وجهي وإلاّ قطعتها لك
بنيامين: - هذه الفتاة تذكرني بوقاحتك ياسمين.أخبريها مسبقا أنّ هذا لن يكون مفيدا. سنبدأ بالاستجواب الآن. هاتِ ما عندك بخصوص ذكرى النكسة وأخبرينا بكل جديد طوعيّا كي نخلي سبيلك.
مريم: - لا تحلم أن أخبرك بشيء أيّها الخنزير النتن.
بنيامين: - جيد! سنلجأ إلى وسائلنا إذن. أنتما الإثنان أخرجا ياسمين من هنا
- ولكنّها لا تزال مريضة. أرجوك أمهلها فجسدها لن يقوى على التعذيب الآن. رجاء انتظر ريثما تتعافى.
بنيامين: - أخرجا ياسمين في الحال.
أخذا يجرانني بينما كنت أحاول ثني بنيامين عن ما ينوي القيام به، كنت أصرخ وأتوسّل أن يمهلوها بعض الوقت هدرا. وسحني الجنديّان إلى الخارج وأغلقت الأبواب. بالداخل أبقوا على مريم أين تمّ تعذيبها بشتّى السّبل والأنواع. وبالخارج لم أكن أسمع غير الصياح والعويل. بالداخل استعملوا معها أبشع الطرق وأفضع الوسائل وقاموا باقتلاع أظافرها الواحدة تلو الأخرى . وبالخارج كانت صرخاتها تمزّق قلبي وتحرقه. بالداخل حرقوا جسدها بسجائرهم المشتعلة وصعقوها بالكهرباء ثم بالخارج أطلّوا كخنازير محتقنة. أجل هاهم يخرجون تباعا بعد أن تركوها مرميّة على الأرض تسبح في الدّماء كجثّة هامدة. فتحوا الأبواب وطلّوا وكانت دهشتي ترتسم إذ رأيت جاكوب بينهم ولم أعلم كيف دخل؟ ولا لم تفادى نظراتي وأدار وجهه ومضى؟ دخلت إلى صديقتي مسرعة ورأيت الحالة التي كانت عليها فأحسست بفؤادي ينصهر ويذوب وبقيت صامتة لا أحوّل عيني عنّها أنظر إليها نظرة غيظ وحنق شديدين. تنفست ببطء وقالت لي “ لا بأس لا تبكي أنا على ما يرام صدقيني أنا سعيدة لأنّي لم أنبس بحرف” حملتها بصعوبة ووضعتها على السّرير وشرعت في تضميد جروحها الدامية فأردَفَت في أنين “ ذلك النذل لم يكتفي بقتل زوجي وراح يعذّبني. أقسم أنّي سأجعله يذرف عوض الدموع دماء. أقسم أني سأجعله يغض أنامله قهرا وحسرة ” فسألتها: - “عن من تتحدّثين؟ ”
- ذلك الحقير المدعو جاكوب
- هل جاكوب هو من قام بتعذيبك هكذا... هل أنت متأكّدة؟..لعلّك مخطئة! - أجل هو بعينه..أعرفه جيّدا.. هو الذي احتجزك تلك المرّة.
- مستحيل ... جاكوب.. جاكوب لا يفعل هذا.. مستحيل !
- لا أفهم سرّ استغرابك إلى هذا الحدّ. في الأخير هو أحد جنود الجيش المتوحشّ يرتكب الجرائم المعتادة.
- كلاّ هو ليس متوحّشا مثلهم، جاكوب يمتلك بعض الإنسانيّة
- لا أصدّق ما تقولين!أحقا تخالين أنّ أحد عساكر بني صهيون يمتلك الرحمة والإنسانيّة أو يمتلك قلبا بالأساس؟ ذاك الذي قتل زميليك ومنهم زوجي وقتل ابن عمّك وخطيبك السابق وعذّب صديقتك للتوّ! ذاك الذي نغّص على الآلاف حياتهم وأفقدهم الراحة والسعادة! ياسمين أجننت؟
بقيت مصدومة ممّا أسمع، أظنني حقا جننت واستخف بي وصدّقت ألاعيبه الوسخة. أظنني كنت حمقاء للغاية عندما انطلت عليّ حيله الماكرة. مشيت في الممرّ وقصدت غرفتي ففتحت خزانتي وأخرجت منها السكّين المخبّأ في أعلى الدرج بين الثياب والدّموع تنحدر على وجنتاي والحرقة تشتعل في صدري وذهبت إلى مكتب جاكوب فلم أجده. سألت عنه الحارس فأخبرني أنّه يستريح بغرفته. فقصدتها وفتحت باب الغرفة فجأة وكان مستلقيا على السرير. رفع رأسه فنظر إليّ ثم عاد إلى وضعيّته الأولى وقال: “ للمرّة الأخيرة. لا تدخلي عليّ تارة أخرى بدون استئذان. ما بك؟ ماذا تريدين؟ ” صمتت وكنت أرتجف ولم أدر ما أفعل. كان قلبي ينبض بشدّة كلّما التقينا حتّى عندما كان يدرّبني ويقسو عليّ. أصبح خفقان قلبي عند رؤيته أمرا بديهيّا ولكنه نبض أكثر من العادة هذه المرّة. بُهت لصمتي فنهض من مكانه وقدم إليّ وعندما لاحظ نهر الدّموع الجارف من عيني تعجب واستفسر ثانية “ما بك؟ لم تبكين؟ هل تعرّض لك أحدهم؟ هل اقترب منك أبراهام ثانية؟ ماذا دهاك ياسمين ما خطبك؟ كفي عن البكاء وانبسي! ”
لم يكن منّي إلا أن رفعت يدي وصفعته على وجهه بيدي المرتعشة ثم
صدحت “ يا لك من نذل حقير. كيف تمكّنت من خداعي طيلة هذه الفترة. وثقت بك أحيانا وظننت أنّك أقلّهم شرّا ومكرا وجعلتني أحسب أن بك شيئا من الرحمة والإنسانية لأكتشف في الأخير أنّك لا تفرق عنهم قيد أنملة! أخبرني كم شخصا قتلتم؟ وكم بيتا هدّمتم؟ وكم أناسا شردتم؟ وكم طفلا صغيرا يتّمتم؟ وكم عرضا انتهكتم؟وكم امرأة فتاة اغتصبتم؟ وكم امرأة رمّلتم؟وكم شابا أسرتم؟ وكم أسيرا عذّبتم؟ وكم قلب أمّ ثكلى حرقتم؟ أجبني، كم جامعا دنّستم؟ وكم كنيسة دمّرتم؟ وكم مصحفا وكم إنجيلا مزّقتم؟ أخبرني، لم تقتلون الأبرياء ولا يحرّك لكم جفن واحد؟ ألم يكن كافيا أن تنهبوا خيراتهم وتأخذوا حقوقهم وتنتزعوا منهم أرضهم وتحرموهم قدسهم؟ لم جعلتموني شيطانا أخرس وصنعتم منّي لعبة بين أيديكم؟ أنتم تقتّلون الأبرياء وأنا أداوي مرضاكم. أنتم تذّبحون المستضعفين وأنا أعالج جرحاكم من أجل حياة أطفال أعلم مسبقا بأن عديمي الوجدان من أمثالكم سيقتلونهم في نهاية المطاف لا محالة. اليوم أتقنت بأن لا مجال لوجود إنسان بقلب ووجدان بينكم وأن إكرامكم يكمن في قتلكم وليشفى غليلي ستموت على يدي ”
أخذت السكّين وحاولت الإمساك بها رغم ارتعاش يميني وارتعاد فرائصي ونبضات قلبي المدوّية. اقتربت منه كثيرا حتى حشرته بيني وبين الحائط وقرّبت السكّين منه فعجزت ولم أستطع وانتصر دمعي المتهاطل في محاولة
سخيفة لدفعه إلى الدّاخل وسقط السكّين على الأرض فالتقطه جاكوب ووجّهه نحوي فرُحت أعود إلى الوراء بينما كان يتقدّم نحوي حتى أسرني بين صدره والحائط المقابل ثمّ رمى بالسكّين جانبا وصرخ “ لمَ لمْ تفعليها؟ ” ومسكته من مئزره حينها وصرخت بدوري “ ولم لم تفعلها؟ ليتك فعلتها وخلّصتني .” وارتجفت أوصالي وتحجّرت دموعي في مقلتي وانكفأت إلى الدّاخل فأجابني حينها : “ لا أنوي أن أكون سينوز ”
بتّ تلك الليلة في يقظة أجلس على حافة نافذتي أتأمّل سواد الليل الهادئ وبداخلي بركان يكاد أن ينفجر . لم أجد تفسيرا لما حدث معي سوى أنني وقعت في شراكه اللعين. أظنّ أنّ مسرحيّة تظاهري بالصرامة والقوّة قد كشفت اليوم أمامه وحتّى أمام نفسي. لقد تأكّدت اليوم أنّي جدّ ضعيفة أمام الحب عاجزة إزاء العشق فاقدة القوى. تعلّمت اليوم أنّ أسر السجن وظلمته أهون على المرء ألف مرّة من أسر القلب والروح والوجدان خاصة إذا كان هذا القلب أسيرا لعشق عاقّ أشبه بالخطيئة والجريمة الكبرى في حقّي وحقّ قضيّتي ومبادئي. جاكوب رمى بكل تلك الأسس التي بنيت عليها شخصيّتي وتمكّن من تربّع عرش فؤادي وبسط نفوذه الكامل على مملكتي. وشرعت أسترجع ما مضى منذ دخلت هذا المعسكر إلى آخر كلمة نطق بها جاكوب فلم أفهم قصده. ماذا عنى بــ “ لا أنوي أن أكون سينوز” ؟
من هو سينوز؟ وماذا كان يقصد؟
أمّا هو فقد عاد متأخّرا جدّا إلى منزله ليتفاجأ بأنّها ليلة ذكرى زواجه التي
مكثت ميريكا تعدّ لها الكثير في حين كانت شبه ممحاة من مخيّلته. دخل فوجد الشموع مطفأة والصحون ملقاة على الأرض. ولج غرفة نومه ليشرع في تقديم أعذاره المعتادة فاستقبلته بعينين دامعتين قد سال الكحل منهما وكلمات انبثقت من حنجرتها بغصّة وأسى “ أرجوك لا تبدأ السمفونية المعتادة فلقد حفظتها. لقد سئمت أعذارك البالية ومللت مبرّراتك السخيفة وبرمت بحججك التافهة” وما كاد يفتح فاه حتّى أومأت إليه بيدها أن يسكت واضعة سبّابتها على فمها ثم همست بصوت خافت: “ أرجوك غادر بهدوء ” . لم يجد جاكوب حلّا سوى الاستجابة لطلبها خاصّة وأنها لم تكن المرّة الأولى التي يسهى فيها عن مواعيد ميريكا المقدّسة كأعياد الميلاد والزواج والحبّ وغيرها..
ومع استبانة الصبح الجديد وانكشاف شمسه كان لا بدّ لي أن أجد وسيلة لخلاص مريم العالقة بين القضبان. كنت أمرّ أمام مكتب بنيامين لمّا سمعت روبن يتحدّث منفعلا حردانا “ لقد زاد به الكبر يا سيّدي” فاقتربت من
الباب. ووضعت أذني عند الثقب.
روبن: - كيف يتجرأ ويعصي الأوامر يا سيّدي.
بنيامين: - لماذا ما الذي فعله؟
روبن: - أمرت أحد العساكر أن يستلب شرف تلك الأسيرة فمنعه.
بنيامين: - لقد أخفتني، ظننت الأمر مهمّا. هذا بديهيّ بالنسبة لجاكوب.
روبن: - كيف هذا يا سيّدي؟!
بنيامين: - جاكوب يرفض دائما المهام من هذا القبيل ويكره هذا النوع من العقوبات لذا لن يسلّطها على أحد يومًا. يكاد الأمر يكون محسوما لديه.
روبن: - وما السبب..؟! عفوا إن كثرت تساؤلاتي ولكنّ الأمر يستلزم التعجّب.
بنيامين: - لأن أختي -أي والدته- اغتصبت أمام عينيه عندما كان طفلا صغيرا فضل مشهدها ينخر ذاكرته طيلة هذه السنين.
روبن: - هل الفلسطينيّون هم من فعلوا ذلك؟
بنيامين: - ههههه يمكنك أن تقول أنهم فعلوها إن أردت.
روبن: - أستسمحك يا سيّدي بيد أنّني لم أفهم
بنيامين: - منذ...
فجأة رأيت أحد الجنود يقترب فلم أستطع أن أسمع البقيّة واضطررت إلى الذهاب بينما ظل فكري أسيرا لما سمعته منذ قليل. دخلت غرفة المستشفى لأذهب إلى مريم فلم أجد لها أثرا. تفاجأت ورحت أبحث عنها بكل الغرف فلم أعثر عليها ووقفت عند طبيب أسأله: “ تلك الفتاة التي كانت هنا أين هي؟ ” فقال أنّه لا يعلم. واعترضتني ممرّضة فأعقت طريقها وطرحت عليها نفس السؤال فأجابت “أخذها الجنود منذ السّاعات الأولى لهذا اليوم. سمعتهم يقولون لها بأنّ حياتها قد انتهت وبأنّهم سيأخذونها لتموت ”
عندئذ خيّل إليّ أنّني وقعت في بئر لا يسبر له غور، وشعرت بقلبي يدقّ بعنف، وأحسست بمغص في بطني، وبرجليّ قد انفصلتا عنّي كما لو أنّ قنبلة مزّقتني إلى أجزاء صغيرة متناثرة. فركضت نحو مكتب بنيامين وقد كان في اجتماع مغلق فما إن رآني حتّى أمرني بالخروج ولكنّي تمسّكت بالبقاء وسألته: “ أين أخذتم مريم؟ ” فقال لي بسخرية بالغة: “ أخذناها إلى عالم الأرواح. أ تريدين زيارتها؟ ” ثم انخرط في نوبة ضحك وقهقهة متسلسلة فصرخت فيه واليأس يكاد يحطّمني “لماذا؟ ألا يكفي أنّكم عذّبتموها؟ لم لا تتركونها وشأنها؟ ” نظر إلى الجالسين ثم استنبأ: “ هلّا أجاب أحدكم عن سؤال الآنسة الجميلة؟ لم لا نتركها وشأنها فحسب؟ ” أحسست أنّي تحوّلت إلى أضحوكة بالنسبة لهم خاصّة عندما ردّ أحدهم: “ لأنّنا ببساطة ننتعش مع كل روح عربيّة تزهق” وأضاف آخر “ ولأنّنا إن تركناها ستلجأ ربّما إلى منظّمات حقوقيّة وتجلب لنا مشاكل نحن في غنًى عنها ” ثم ختم أخيرهم “ فلتعلمي أنّ لا عربيّا يدخل هذا المكان ويغادره سالما ناجيا. ”
لم أستطع تحمّل المزيد من الإهانات فخرجت والدّموع تملأ عيناي والغضب يستولي عليّ . عجزت حينها حتّى عن التفكير في ما يمكن لي أن أفعله كي أتثبّت من الخبر ووقفت في أحد الممرّات خاضعة مُهانة أذرف دموع الأسى وقد بدأ التصديق بأنّ مريم قد استشهدت يعرف إلى قلبي طريقا. وفجأة جاءني أحد العساكر مناديا: “ دكتورة، الرائد جاكوب يأمرك بالخروج لدى البوّابة الخلفيّة من جهة المستودع. سأصحبك لأدلّك على الطريق ” استفزّ الجنديّ أعصابي فصرخت فيه مباشرة : “ أخبر رائدك أنّي لا أريد رؤية وجهه ولا وجه أي نذل حقير منكم. اللّعنة عليكم جميعا ما أحقركم من عبيد وأنجاس” لفحت قلب الجنديّ هبّة من انفعال شديد حتّى رفع متنه ليصفعني لو لم يظهر جاكوب في الحال ويأمره بأن يدعني ثم تقدّم ذاك الأخير نحوي وأخذ يجرّني من يدي ويسحبني غصبا عنّي بينما كنت أقاوم وأدوّي صاخبة بأن يتركني فلمّا أبى حاولت الإفلات ولوي ذراعه ورغم أنني استعملت أقصى قواي إلا أنّه لم يتألّم على ما يبدو فقد رمقني بنظرة ساخرة ثم أردف ضاحكا “ جيد! أفضل بكثير من ذي قبل. على الأقل لم تذهب تدريباتي لك طيلة هذه الفترة هدرا.ولكنّك لم تبلغي بعد المستوى المطلوب. هيّا تحرّكي” وسحبني من يدي إلى الأمام حتّى خرجنا من جهة المستودع إلى الباب الخلفيّ ثم أركبني سيّارته وانطلق. كنت أسأله بإلحاح عن المكان الذي سيأخذني إليه وتملّكت منّي الهواجس حتّى ارتعبت علاوة على طيف مريم الذي يرفض مفارقتي ولو لثوانٍ وفجأة سألني
- هل تثقين بي؟
- لماذا تسأل؟
- أريد فقط أن أعرف؟
- ألم تقل في أوّل تدريب لي منذ أشهر، يوم دفعتني لأسقط ثمّ مددت لي يدك لأستند عليك فما إن قرّبت يدي حتى أغلقت أنت كفّك وأفلتّ ذراعك أنّ أوّل درس لي هو أن لا أثق بأحد أبدا.
- صحيح. ربّما قلت هذا لأنّه في ذلك الحين لم يكن هناك من يهتمّ لسلامتك. ولكنّي أسألك الآن.
- كلّا. لا أثق بك البتّة. وكيف لي أن أستوثق قاتل وأستأمنه؟
- هل تعلمين أنّي قتلت ثلاثة رجال قبل قليل؟
- افتخارك بالقتل سينقلب حسرة وندما يوما ما. عموما لم يعد الاستماع إلى جرائمك يثير في نفسي استغرابا فقد عهدتك وانتهى الأمر.
- كلّا. سيثير فيك الكثير من التعجّب والاستغراب حتّى أنّك قد لا تصدّقي، حتّى أنّني أنا نفسي لا أصدّق حتّى الآن ما فعلت! ولا أعرف لماذا فعلت!
- ما الذي تعنيه؟ لماذا توقّفت؟
- انزلي ها قد وصلنا؟
- ما هذا المكان؟ لم نحن هنا؟ جاكوب ما الأمر؟
- اهدئي لا تخافي لن ألحق بك أيّة ضرر تعالي معي.
- المكان هنا بارد جدّ ولكن لم أتيت بي إلى هذا المستود.. من؟ مريم؟ مستحيل! عزيزتي مريم هل أنت بخير؟ هل أصابك مكروه ما؟ الحمد لله على سلامتك. آه لك الحمد يا ربّي. أخبريني كيف نجوت؟
جاكوب : - سأنتظركما في الخارج
مريم : - أنا بخير . جاكوب هو الذي أنقذني.
- ماذا؟ أ حقّا ما تقولين! آه يا إلاهي أكان فعلا..
مريم : - لم تضاعفت سعادتك كثيرا عندما علمت بأنه من أنقذني؟
- آه كلّا كلّ ما في الأمر أنّني اكتشفت أنّ حدسي كان صائبا. لقد أحسست منذ البداية بأنّ في قلبه شيء من الرأفة وبأنّه ليس عديم الضمير مثل البقيّة.
مريم : - هل وثقت به بهذه السّهولة؟ ياسمين استفيقي حتّى لو صدق هذه المرّة ولأسباب غامضة لا أحد منّا يعرفها، فذاك لا يساوي قطرة من مقدار الدم الذي سفكه ولا يعادل ذرّة من تربة الأرض التي دنّسها. هذا لن يشفع له أبدا أعماله الوحشيّة وقتله للأبرياء. إن كنت قد استغنيت عن حقّ سليم فإنّ الثأر لطارق سيبقى دينا عليّ إلى النهاية.
- مريم لم تخاطبينني بهذه الطريقة الحادّة؟
مريم : - لأنّني بتّ لا أفهمك. كيف تميلين إلى إسرائيلي مجرم وتغرمين به ؟
في تلك الأثناء كان أحد الملازمين قد اقتحم ذلك الاجتماع المغلق في المعسكر لخطب ضروري وفي يده نسخ صادحا بصوت مضطرب:
الملازم: - سيّدي. عذرا للمقاطعة ولكنّ الأمور ليست على ما يرام.
روبن: - ما الأمر؟
الملازم : - مجموعة شباب إرهابيين أصدروا جريدة ليلة أمس واليوم يقومون بتوزيعها. وسمعنا بعض المحطات التلفزيّة الغربيّة والعالميّة قد بدأت تعنى بهذا الأمر وتنقل ما في الصحيفة من أخبار لا تخدم مصلحتنا. والمشكلة أنّ بعضها مرفقة بصور والأدلّة.
بنيامين: - اللّعنة عليكم جميعا ما أغباكم اللّعنة عليكم ! كم جاسوسا زرعنا هناك وكم ثكنة للمراقبة أرسينا؟ لمَ لمْ تتفطّنوا إلى الأمر سابقا.
طأطأ الملازم رأسه خزيا. فاقتلع بنيامين نسخ الجريدة من يده وأمره بالانصراف. ثمّ راح يتصفّح الجريدة بعنف متمتما " كالعادة. يستعملون الأسماء المزيّفة. علينا وضع خطّة على الفور لمحاولة إيجادهم"
جوزيف : - في البداية دعني أجري اتّصالات كي ينكسر صدى هذه الصحيفة في القنوات.
بنيامين: - أجل، مرهم فليوقفوا الحديث عنها على الفور. اختلقوا أيّة قضيّة أخرى واشغلوا الرأي العام بها في الوقت الراهن.
روبن: - سيّدي، أليست هذه صورة تلك الأسيرة. تلك التي بعثنا بها إلى الموت منذ سويعات، مريم على ما أظن !
بنيامين: - أجل، هي بعينها. " طبيبة متطوّعة تقع في أسر براثن الصهاينة " يحاولون جلب الاستعطاف من خلال العناوين المبهرجة والصّور البريئة ليتهم يجرؤون على ذكر أسمائهم ! من كاتب هذا المقال؟
روبن: - كتب في الأسفل بقلم " نانك"
بنيامين: - حسنا إذن ! لنرى إلى أيّ حدّ سيصمد هؤلاء التافهين !
وعادت مريم فجأة إلى طرح سؤالها من جديد بعد أن صمتت للوهلة الأولى
مريم : - كيف تميلين إلى إسرائيلي مجرم وتغرمين به ؟
- لست مغرمة به إطلاقا مريم كفاك ادعاءات سخيفة!
مريم : - لست بذاك القدر من الغباء ياسمين كفاك تبريرات واهمة. نظراتك، ابتساماتك، ارتعاش صوتك وأنت تنطقين اسمه لا تدلّ إلا على أنّك قد شغفت به تماما وأنّك صرت منساقة إلى هوى نفسك الذي سيجرّك نحو الهاوية ويقترب بك إلى الهلاك. حبّك هذا جريمة للأسف ياسمين. حبّك وإن لم يكن خيارا فهو خيانة للقضيّة بأكملها. حبّك عشق عصيّ عاقّ.
- دعينا من هذا الآن واخبريني كيف تمكّنت من النّفاذ؟
مريم : - كنت بالمستشفى عندما قدموا إليّ وأخذوني إلى غرفة التحقيق. حينها أمروا أحد العساكر أن يفعل بي ما يحلو له فتصدّى له جاكوب في المرّة الأولى ثم جاءت التعليمات بأن يتخلّصوا منّي خارج المعسكر وأن يلقوا بجثّتي من أعلى الجبال. وضعوني في سيّارة وأتى بي ثلاثة رجال إلى الجبل القريب من هذا المستودع فأنزلوني ثم استعدّوا لإطلاق النّار عليّ. أغمضت عيناي وخلت أنّها النهاية حتّى سمعت صوت ثلاث طرقات متتالية. ثم فتحت عيناي لأكتشف أنّني لا زلت على قيد الحياة وإذ بي ألمح جاكوب يقف أمام سيّارته وفي يده سلاح وجميع الجنود الثلاثة مرتمون على الأرض جثثا هامدة. ثم اصطحبني إلى هذا المكان.
- إذن كان روبن يتحدّث عنك لمّا قدم ليشي بجاكوب لتصدّيه لاغتصابك . على كلّ ما العمل الآن؟
مريم : - أريد الرجوع إلى غزّة
- فلنخبر جاكوب علّه يجد لك مخرجا. هيّا لنخرج ! جاكوب، مريم تريد العودة إلى قطاع غزّة.
جاكوب : - هذا مستحيل لن تتمكّن من العبور إلى هناك. إذا اقتربت من المعبر ستنكشف اللعبة وسيعلمون بأنّك على قيد الحياة.
- ما الحلّ إذن؟
جاكوب : - أمامها تركيا وسوريا. فلتختر إحداهما
- مريم ما رأيك؟
مريم: - مستحيل! لغير غزّة لن أذهب. لقد أتيت في مهمّة وعليّ إكمالها.
- ولكنّك لن تستطيعي العبور لذا لتذهبي إلى تركيا وأعدّي هويّة جديدة ثم عودي.
مريم: - أريدك في كلمة على انفراد.
جاكوب: - لا تتأخّرا.
- حسنا.
مريم : - ياسمين هذه فرصتك لم لا تهربين معي؟ هيّا فلنذهب سويّا.
- لا أستطيع.
مريم: - لماذا؟ ألم تأت من أجل الفلسطينيين؟ ألم تجيئي لمساعدتهم ومداواة جروحهم. أم أنّ الرفاهيّة مع بني صهيون قد راقتك؟
- مريم أرجوك كفى إن كان هذا اتّهاما فهو جدّ جائر وظالم وإن كان مزاحا فهو جدّ ثقيل ومزعج. أرجوك كفاك تجريحا وإهانة لكرامتي.
مريم : - آسفة. صدّقيني لا أقصد ذلك ولكني لا أفهم لم لا تهربين معي؟
- لأنّي لا أستطيع أن أضحّيَ بحياة الأطفال حتّى لو كانوا سيقتلونهم يوما ما فإنّ ذرّة الأمل التي في يدي لن أرمي بها وأمضي في سبيلي. لقد كبّلوني يا مريم وتفنّنوا في اختيار الأغلال. ولكنّي سأرجع إليك ذات يوم وسنلتقي في غزّة بإذن اللّه. هذا وعد !
مريم : - ما دمت قد وعدتني بالعودة فعديني بشيء أهمّ ، عديني بأن تبتعدي عن هذا المجرم أرجوك ولا تنخدعي لألاعيبه القذرة.
- مريم أرجوك صدّقي أنّه مختلف عنهم بعض الشيء أعلم أنّ جميعهم أنذال ووحوش تختبئ في هياكل بشريّة وأنهم عديمو الشرف وفاقدو النخوة والضمير ولكنّه يختلف عنهم. لست أدافع عن جرائمه ولكنّي أشعر أنّ بداخله أمر ما يجبره على فعل ذلك .
مريم: - ستثبت لك الأيام أنّك مخطئة
- سيشهد المستقبل أنّي محقّة.
وقفت السيّارة أمام الحدود وراحت مريم تعانقني ثم طلبت منّي أن أكون حذرة وأن أواصل تعليم الأطفال كما أعلمتني بأنّها ستسعى إلى الوصول إلى الجمعيّات الحقوقيّة لتقدّم شكاوى بحجم الانتهاكات والتعذيب الممنهج في السجون والمعسكرات ثم انتهت لحظات الوداع وعدت أنا وجاكوب أدراجنا.
خلال الطّريق كان واضحا أنّ لديّ الكثير لأقوله ولكنّ لساني بدا منعقدا في البداية ثم ما لبث أن تنقّض: “ حسنا! جاكوب... آه..لا أعلم ما سأقوله أو ما يجدر قوله في موقف كهذا. أنا فقط شكورة لك على صنيعك” أدار نظره تجاهي ثم حوّله إلى الوجهة الأخرى : “ انسي الأمر واحرصي أن يبقى سرّا ”
أومأت له بالموافقة وبقينا في صمت رهيب حتّى وصلنا. نزلت من السيّارة ولكنه لم يفعل ولعلّه فقه سؤالي الذي لم أنطق به فأجاب: “ لن أدخل معك. أختي سيلا ستعود اليوم. سأذهب لاستقبالها في المطار.”
مضيت إلى المعسكر فلقيت روبن عند الباب وسرعان ما استفسر:
روبن : - أين كنتما؟
- طلبت من الرائد جاكوب أن يصطحبني إلى صيدليّة لاقتناء بعض الأدوية الناقصة.
روبن : - ولم يداك فارغتان إذن؟
- لأنّ الصيدليّة كانت مغلقة وجاكوب قال أنّ لديه عمل يقوم به لذا أـمرني أن أبعث بمن يشتري هذه المستلزمات.
روبن : - هكذا إذن. جيّد! في المرّة القادمة ناولي قائمة حاجياتك للمسؤول عن هذه الأمور في المعسكر.
وفجأة أقبل أحد الملازمين مضطربا:
يتبع