17 جمادى الأولى 857هـ \ 25 أيَّار (مايو) 1453م[عدل]

آخر أباطرة الروم، القيصر قسطنطين پاليولوگ الحادي عشر. رفض جميع الاقتراحات العُثمانيَّة للاستسلام ودافع عن وطنه حتّى النهاية.
أرسل السُلطان أمير مدينة سينوپ إسماعيل إسفنديار أوغلو إلى الإمبراطور يعرض عليه تسليم المدينة دون إراقة المزيد من الدماء مُقابل شرطين اثنين: أن يخرج الإمبراطور وحاشيته بكُلِّ الأموال والذهب، ويذهب إلى شبه جزيرة المورة ويحكمها تحت سيادة الدولة العُثمانيَّة؛ وأن يتعهَّد السُلطان بعدم المس بحُريَّة الأهالي وأملاكهم وأرزاقهم وكنائسهم ولا يتعرَّض لهم في دينهم أو يُكرههم على اعتناق
الإسلام، ويؤمّن على حياتهم بعد دخول الجيش العُثماني إلى المدينة،
[113] أمَّا إن دخلها بالقوَّة فهو حُر التصرّف فيها كما يرى مُناسبًا، على أنَّه لن يهدر دماء أبنائها ولا يُكرههم على الإسلام.
[108] وبعد أن بلغت الرسالة الإمبراطور، جمع مُستشاريه وعرض عليهم الأمر، فمال بعضهم إلى التسليم وأصرَّ آخرون أن يستمرّوا بالدفاع عن المدينة حتّى الموت، ومال الإمبراطور إلى الرأي الأخير، فردَّ رسول السُلطان برسالةٍ يقول فيها أنَّه يشكر الله إذ جنح السُلطان إلى السلم، وأنَّهُ يرضى أن يدفع له الجزية التي يُريدها وأن يعترف بسُلطته على كافَّة الأراضي والحصون والبلدات التي فتحها، أمَّا القسطنطينيَّة فهي ليست قلعة حتّى يتنازل عنها، بل هي أكبر تاج إمبراطوري مسيحي يرجع تاريخه إلى ألف وخمسمائة سنة، وأنَّه قد أقسم أن يُدافع عنها حتّى آخر لحظة في حياته، فإمَّا أن يحفظ عرشه أو يُدفن تحت أسوارها.
[114] فلمَّا وصلت الرسالة إلى السُلطان قال: «حَسَنًا، عَن قَرِيْبٍ سِيَكُونُ لِي فِي القُسْطَنْطِينِيَّةَ عَرْشٌ أو يَكُونُ لِي فِيْهَا قَبْرٌ».
[111]
§18 جمادى الأولى 857هـ \ 26 أيَّار (مايو) 1453م[عدل]

تُربة (ضريح) الصَّحابي أبو أيّوب الأنصاري كما تبدو اليوم. اكتشف السُلطان مُحمَّد والشيخ آق شمس الدين هذا القبر أثناء حصار القسطنطينيَّة.
في هذا اليوم حضر من المجر وفدٌ كبير يحملُ رسالةً إلى السُلطان مُحمَّد باسم العالم المسيحيّ، وهدَّد بأنَّ أُسطول البُندقيَّة (الذي كان سيِّد
البحر المُتوسّط في ذلك الزمن) مُعززًا بأساطيل أوروپَّا المُختلفة، على وشك اجتياز مضيق
چنق قلعة، وأنَّ جيشًا مسيحيًّا كبيرًا أكمل استعداداته الأخيرة لاجتياز الطونة (الدانوب) نحو الجنوب. وفي الوقت نفسه، كان أمير القرمان إبراهيم بك قد اتفق مع البنادقة على ضرب العُثمانيين ضربةً خلفيَّةً من الأناضول حالما يعترض الجيش المسيحيّ من الشمال. بناءً على هذه المُعطيات عقد السُلطان مُحمَّد مجلسه الحربي للمرَّة الأخيرة للاستماع لرأي القادة والوزراء والمُستشارين، فكرر الصدر الأعظم خليل جندرلي باشا نصيحته للسُلطان بأنَّهُ يرى فرض شروطه ورفع الحصار. عارض الشيخ آق شمسُ الدين ذلك بشدَّة مُعلنًا أنَّه رأى في منامه بشارة فتح القسطنطينيَّة على يد السُلطان، وتلا عليه حديث الرسول مُحمَّد الخاص بالفتح: «لتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ».
[108] وزاد قائلًا: «يَجِبُ الاسْتِمْرَارِ فِي الحَرْبِ، وبِالغَايَةِ الصَّمَدَانِيَّةِ سيَكُونُ لنا النَّصرُ والظَّفرُ».
[115] كما قال أنَّه رأى الصَّحابي
أبا أيّوب الأنصاري في منامه يُخبره عن موضع قبره، وسواء كانت هذه النُقطة الأخيرة صحيحة أم بالغ فيها المؤرخون العُثمانيّون، فإنَّ السُلطان والشيخ آق شمسُ الدين عثرا فعلًا على قبر الصحابي سالف الذِكر، وكانت معالمه قد طُمست وانهارت القبَّة التي بناها فوقه قيصر الروم طيباريوس(
3)،
[116] فأمر السُلطان بتنظيم الحراسة على القبر بعد أن تذكّر حديث الرسول مُحمَّد لأبي أيّوب: «حَرَسَكَ اللهُ حَياًّ وَمَيِّتاً».
[117]
§19 جمادى الأولى 857هـ \ 27 أيَّار (مايو) 1453م[عدل]
أعلن السُلطان اقتراب موعد الهجوم العام على المدينة، وأطلق شعار: «إمَّا أن يسقط العُثمانيون أو تسقط القسطنطينيَّة»،
وصام المُسلمون هذا اليوم، تطهيرًا وتزكيةً للنفوس، وتقرُّبًا إلى
الله،
[118] وفي مساء ذلك اليوم أوقدت النيران والمشاعل والقنادل في المُعسكر العُثماني حتّى ظهر المُعسكرُ مُتوهجًا توهجًا شديدًا، وظلَّ الجُنود طوال الليل يُهللون ويُكبّرون، ويُنشدون الأناشيد الحماسيَّة، ويقرعون الطبول.
[29] وبلغ من شدَّة الوهج أن ظنَّ الروم بأنَّ حريقًا كبيرًا اندلع في مُعسكر العُثمانيين.
[118]
§20 جمادى الأولى 857هـ \ 28 أيَّار (مايو) 1453م[عدل]
قضى الجيش العُثماني هذا اليوم أيضًا صومًا لله، وعبادةً ودُعاءً، وكان الشُيوخ والعُلماء يطوفون بين صُفوف الجُنود، ويقرأون عليهم آيات الجهاد، ويحدثونهم عن ما أعدّه الله للشهداء من نعيم الجنَّة وحُسن الجزاء.
[118] وخطب فيهم السُلطان مُحمَّد فرفع معنوياتهم، وشجَّعهم على الجهاد والقتال. في نفس الوقت، كان الروم يُقيمون القداديس والابتهالات في كاتدرائيَّة آيا صوفيا، وأخد الكهنة يطوفون بالشوارع وأرتال المُؤمنين وراءهم يرفعون
الصُلبان ويقرعون أجراس الكنائس.
[119] وفي ليلة هذا اليوم جمع الإمبراطور رعاياه في آيا صوفيا، وأجرى لهم مراسم دينيَّة وأخبرهم باقتراب وقت ظهور السيِّدة مريم العذراء لتدفع الغُزاة عن المدينة، ثُمَّ خطب فيهم وجنوده خطبته الأخيرة، وحثَّهم على الثبات والصُّمود في وجه هجوم الغد، وراح يُذكرهم بأنهم سلالة صناديد
أثينا وأبطال
روما.
[118] ولم ينم الشعب البيزنطي ليلة 28 - 29 أيَّار (مايو)، أمَّا الإمبراطور قسطنطين فاستراح بضعة ساعات في سراي تكفور، ثُمَّ ذهب إلى بوَّابة رومانوس حيثُ تفقَّد استعدادات جُنوده البسيطة وحاول تشجيعهم ورفع معنويَّاتهم، وجلس ينتظرُ الهجوم المحتوم.
[120]
§الثلاثاء 21 جمادى الأولى 857هـ \ 29 أيَّار (مايو) 1453م[عدل]

العُثمانيّون يقتحمون القسطنطينيَّة، ويبدو الإمبراطور قسطنطين على أقصى اليمين مُمتطيًا جواده الأبيض يُحاولُ صدَّهم.

الهجوم العُثماني الأخير على القسطنطينيَّة.
في صبيحة هذا اليوم، وبعد
صلاة الفجر، بدأ الهجوم الإسلامي العام على القسطنطينيَّة، فبدأت المدفعيَّة تُطلق نيرانها مع بزوغ أشعَّة الشمس الأولى، وبدأ الجُند تحت ستار هذه النيران بالضغط على الأسوار، ومُحاولة تسلُّقها من جميع الجهات (على أنَّ الهجوم تركَّز على بوَّابة رومانوس بشكلٍ أساسيّ)، وأخذت فرق «المهتر» الموسيقيَّة العسكريَّة تضرب طبولها وتدوي أبواقها لإثارة حمية الجنود، ورجال الدين ومشايخ الطُرق الصوفيَّة يتجوَّلون بين صفوف العُثمانيين يُشجعون المُقاتلين ويتلون الأدعية ويُنشدون الأشعار والمنظومات الدينيَّة، ويُرددون الآيات القُرآنيَّة والأحاديث النبويَّة التي تحثُّ على القتال والجهاد في سبيل الله.
[108][119] كانت الفرقة العسكريَّة الصربيَّة هي أوَّل من انقضّ على الأسوار، تلتها فرق «العزب» غير النظاميَّة، ثُمَّ الفرق العسكريَّة الأناضوليَّة، وتركَّز هجومها على ناحية بلاشرنيا شمال غرب المدينة حيثُ تخلخلت الأسوار وتضعضعت بشدَّة واكتست بالثغرات بفعل القصف المدفعيّ العنيف. وقد نجح الأناضوليّون بدخول المدينة عبر تلك الثغرات، لكنَّهم ما كادوا يفعلون ذلك حتّى ردَّهم المُدافعون على أعقابهم. وأخذ البيزنطيّون يُخلون بيوتهم والشوارع ويلتجئون إلى الكنائس بعد أن هالهم رؤية العُثمانيّون وقد تخطّوا الأسوار، وامتشق بعض المواطنين السلاح ودافعوا مع إخوانهم الجنود عن المدينة.
[121] استمرَّ الضغط العُثماني وتابع السُلطان يُعزِّزُ وحدات الجنود بصورةٍ مُستمرَّة، ولم تستطع أحجار المجانيق التي تُلقى عليهم أو قذائف المدافع أو النار الإغريقيَّة أن تُثني موجاتهم المُتتالية عن مُحاولات تسلّق الأسوار، وعندما ظهر للسُلطان أنَّ المعركة قد احتدمت دفع بخيرة الجُنود إلى القتال، وهم نُخبة الإنكشاريَّة، فانقضوا على الأسوار وألحقوا بالمُدافعين خسائر كبيرة،
[2][79][80] وأُصيب في هذا الهجوم القائد الجنوي يوحنَّا جوستنياني في ذارعه وفخذه، فانسحب ناجيًا بحياته، الأمر الذي سبب هلعًا كبيرًا في صفوف المُدافعين، ويُقال أنَّ الإمبراطور توسَّله ليبقى، لكنَّه أجاب: «سَأَسْلُكُ الطَّرِيقَ التي فَتَحَهَا اللهُ للتُرْكِ».
[121] حُمل جوستنياني إلى جزيرة
خيوس مُقابل الأناضول حيثُ توفي بعد أيَّام مُتأثرًا بجراحه(
4).

العُثمانيّون يقتحمون المدينة، ويبدو في الأعلى حسن الألوباطلي وهو يغرز الرَّاية العُثمانيَّة.

السُلطان مُحمَّد يدخل القسطنطينيَّة.
بقي الإمبراطور وحفنةً من جنوده المُخلصين يُقاتلون الإنكشاريَّة بعد انسحاب الجنويين ناحية المرفأ، فنجحوا في صدِّهم لفترةٍ قصيرة، لكنَّ فشلهم كان محتومًا، ففي تلك اللحظات تمكَّن ضابط عُثماني حديث السن يُدعى
حسن الألوباطلي (ألوباطلي حسن) مع 30 جُنديًّا من رفاقه، تمكنوا من الوصول إلى أعلى نُقطة في السور الأوسط حيثُ ركَّزوا الرَّاية العُثمانيَّة، وفي تلك اللحظة انهالت عليهم السهام والنيران والرصاصات، فقُتل حسن الألوباطلي و18 جُنديًّا آخرًا، لكن الاثنا عشر البقيَّة حافظوا على الرَّاية فلم تسقط من أيديهم.
[121] ويُقال أنَّ الإمبراطور لمَّا شاهد الرَّاية السُلطانيَّة تخفق على الأسوار، أيقن أنَّ الأمر انتهى، فألقى برايته البنفسجيَّة أرضًا وانقض مع بقيَّة جنوده على العُثمانيين، فكانت تلك نهايته، حيثُ سقط قتيلًا مع جنوده دفاعًا عن وطنه. وأشار مؤرخون آخرون أنَّ الإمبراطور جُرح في الهجوم وسقط أرضًا حيثُ سُحق سحقًا تحت أقدام جنوده المُتدافعين، ثُمَّ رآه بحَّارٌ عُثماني فعالجه بضربة سيفٍ قطعت رأسه،
[122] بالمُقابل، قال نقولا باربادو الذي عاصر الحدث أنَّ قسطنطين شنق نفسه ما أن رأى العُثمانيّون قد اقتحموا بوَّابة رومانوس، لكنَّ ذلك يبقى أقل الآراء شيوعًا.
فتح الجيش العُثماني الذي دخل المدينة أبواب القلاع الواحدة تلو الأُخرى ويسَّر دخول كافَّة الوحدات العسكريَّة الأُخرى، ثُمَّ أخذ الجنود بالقضاء على أوكار المُقاومة الأخيرة، وساروا في تشكيلٍ نظاميّ نحو ميدان آيا صوفيا حيثُ تجمهر أهالي المدينة.
[121] وخصص السُلطان فرقًا عسكريَّة لحراسة بعض مواقع المدينة وأهمَّها الكنائس، مثل كنيسة الحواريين، كي لا يتعرَّض لها أحد الجنود بضرر. وفي عصر ذلك اليوم، دخل السُلطان المدينة على ظهر جواده الأبيض «جان بولاد» (أو جانبولاد = جانبولات = جُنبُلاط، أي ذي الروح الفولاذيَّة)، وقد بلغ من العُمر 22 ربيعًا،
[123] ونشر راية السّلام، وأُشير إلى أنَّهُ سجد على الأرض شاكرًا الله أنّ نبوءة الرسول مُحمَّد تحققت على يديه،
[124] ثُمَّ سار إلى كاتدرائيَّة آيا صوفيا حيثُ تجمَّع خلقٌ كثيرٌ من النَّاس فأمَّنهم على حياتهم ومُمتلكاتهم وحُرِّيتهم، وطلب منهم العودة إلى بيوتهم. بعد ذلك توجَّه إلى مذبح الكاتدرائيَّة وأمر برفع الآذان فيها، وأدّى
صلاة العصر داخلها إيذانًا بجعلها
مسجدًا جامعًا للمُسلمين،
[125] ثُمَّ أمر بالبحث عن جُثَّة الإمبراطور قسطنطين، فأُحضرت وسُلِّمت إلى الرُهبان ودُفنت بعد إقامة المراسم الروميَّة المُعتادة.
[121]
§بعد الفتح[عدل]

رسم لما كانت عليه كاتدرائيَّة آيا صوفيا قبل تحويلها إلى مسجد، وفي السنوات الأولى من العهد العُثماني بعد أن أصبحت مسجدًا وقبل إضافة المآذن.
مكث السُلطان في القسطنطينيَّة حوالي 23 يومًا بعد فتحها نظَّم فيها شؤونها ورتَّب أمورها، وكانت فاتحة قراراته أن اتخذها عاصمةً لدولته، بل العاصمة الإسلاميَّة الكُبرى، فاستبدل اسمها باسم «إسلامبول»، وهي كلمةٌ تُركيَّةٌ معناها «تخت الإسلام» أو «دار الإسلام».
[126] اتخذ السُلطان بعد تمام فتح المدينة لقب «الفاتح» أو «أبو الفتح»،
[127]فأصبح يُعرف في التاريخ باسم «مُحمَّد الفاتح»، ويُكتب
بالتُركيَّة العُثمانيَّة: «فاتح سُلطان مُحمَّد خان ثانى»
وبالتُركيَّة المُعاصرة: «Fâtih Sultan Mehmed Han II». بعد ذلك أُرسلت المراسيل إلى السلاطين والأُمراء المُسلمين لإعلامهم بفتح المدينة الحصينة، وفي مُقدِّمة هؤلاء الخليفة العبَّاسي المُقيم
بالقاهرة،
أبو البقاء حمزة بن المُتوكّل القائم بأمر الله، وسُلطان مصر
والشَّام المملوكي،
الملك الأشرف سيف الدين إينال العلائي، وجاء في تلك الرسالة: