قال تعالى : الر تلك آيات الكتاب المبين.
نتوقف هنا عند (الر). التي هي آيات الكتاب المبين ، والمشار إليها ب(تلك).
الآية لا تكون آية للناس إلا إذا كان معناها معلوم لهم، فالآية هي وسيلة (هدى). نحن نؤمن إيمانا بالغيب أنها آيات لأن الله قال ذلك، فلا بد لإيمان الغيب أن يصير إيمان شهادة حين يتحقق تأويلها بمعرفة معانيها، إذا ضللت الطريق ووجدت لوحة في مفترق طرق مكتوب عليها رموزا لا تعرف معانيها فلن تهتدي إلى وجهتك، أما إذا علمت معناها فستكون لك آية هدى ترشدك إلى حيث تريد.
إذا (الر) هي آيات لا زلنا لا نعلم معناها مثل غيرها من الفواتح الأخرى، فلا بد أن يأتي تأويلها ليدرك الناس أنها آيات هدى.
كل فواتح السور التي ابتدأت بها بعض السور لا بد أن تكون قد فصلت في سورها، فلا يعقل أن يأمر الأستاذ تلاميذه أن يجدوا قيمة (س) وقيمة (ص) بدون أن يفصلها لهم في معادلات رياضية، كذلك إذا كان الله قد أمرنا أن نتدبر آياته بما فيها الآيات المكونة من حروف فإن الحكمة تقتضي أن يفصلها في سورها.
لنأخذ الآن سورة يوسف التي ابتدأت بعد بسم الله الرحمن الرحيم ب (الر) تلك آيات الكتاب المبين، الكتاب المبين الذي تعتبر (الر) من آياته هو المصحف الذي بين أيدينا، وقصة يوسف عليه السلام هي تفصيل ل (الر)، فكيف تكون سورة يوسف آيات للكتاب المبين الذي أنزل على محمد عليه الصلاة والسلام وأحداثها وقعت قبل نزوله ب 2000 سنة تقريبا!!
الآيات التي يحق عليها أكثر من غيرها أن تنسب إلى الكتاب المبين هي الأحداث التي عاصرت وجود القرءان وما بعد نزوله، فلا تظنن أن القرءان جاء ليقص علينا قصة حدثت في الماضي فقط كأنباء من الماضي بل إذا أحسنت استخدام عقلك ستدرك أنها ضربت مثلا لما سيكون من شأن الوحي القرءاني ، إذا فإحسان استخدام العقل في فهم حكمة الله من سرد قصة يوسف نبه الله عليه في الآية الثانية من سورة يوسف حيث قال (إنا أنزلناه قرءانا عربيا لعلكم تعقلون)، وضرب قصة يوسف مثلا لصيرورة الوحي القرءاني : نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرءان)، فمن ضمن قصص القرءان تعتبر قصة يوسف عليه السلام أنسب وأحسن قصة يضرب بها المثل لصيرورة الوحي القرءاني : ( بما أوحينا إليك هذا القرءان )، فكما ابتدأ يوسف بالوحي بالرؤيا التي أخذت زمنا حتى بلغ أشده أتاه الله حكما وعلما ومكن له في الأرض وتحقق تأويل رؤياه واقعا، كذلك ابتدئ رسول الله عليه الصلاة والسلام بالوحي القرءاني ، ومتى بلغت الأمة أشدها يؤتيها الله حكما وعلما ويمكن لها في الأرض ويكون التأويل قد تحقق واقعا، فقد اقترن التأويل بالعلم في هذه السورة وفي سورة آل عمران وفي سورة الكهف، فالعلم علم التأويل، وإذا كان الإنسان في طفولته يبلغ رشده في سن الخامس عشرة من عمره فإن وحدة قياس عمر الأمم في القرءان يقاس بالقرن كوحدة زمنية ، فقد عبر القرءان عن الأمم بالقرون ، وعبر عن الأمة بالقرن، ونحن الآن في القرن 15.
فالإيمان بالغيب مآله إلى إيمان الشهادة، فإن كان رجل أحق أن يضرب مثلا لأمة الإسلام فإن إبراهيم عليه السلام هو الأحق بذلك، فملة الإسلام منسوبة إليه (ملة أبيكم إبراهيم)، ولقد ذكر اسم إبراهيم في المصحف الشريف 69 مرة، أول 15 مرة ذكر فيها إبراهم بدون ياء بين الهاء والميم ، هكذا. (إبراهم)، وردت كلها في سورة البقرة، والمرة ال15 والأخيرة التي ورد فيها اسم (إبراهم) بهذا الرسم هو قوله تعالى (وإذ قال إبراهم رب أرني كيف تحيي الموتى....). حيث ازداد إيمانه من إيمان الغيب إلى إيمان الشهادة حيث شاهد ورأى كيف يحيي الله الموتى.